طوفان الأقصى… إشكالية التلازم بين الدوافع والنتائج
بقلم/ إحسان الفقيه
نشر منذ: 7 أشهر و 13 يوماً
الثلاثاء 02 إبريل-نيسان 2024 12:39 ص

 

في السابع من أكتوبر 2023، أطلقت المقاومة الفلسطينية عمليتها الكبرى «طوفان الأقصى»، لوضع حد للصلف والاستكبار الصهيوني، الذي يمارس أبشع الجرائم ضد الفلسطينيين، ويعمل بشكل متواصل على تهويد الأقصى.

قام العدو الإسرائيلي في المقابل بشن هجمات بربرية على السكان المدنيين في قطاع غزة، ما أدى إلى استشهاد حوالي 33 ألفا وإصابة ما يزيد عن 75 ألفا آخرين.

 

لكن بعد ملحمة من صمود شعب غزة، واستبسال المقاومة الفلسطينية في القطاع، والمساندة الفردية في الضفة، تمكنت الفصائل من إلحاق هزيمة فادحة بالاحتلال، الذي سحب جيوشه من كامل القطاع، ودفعت الهزيمة معظم الشعب الإسرائيلي إلى مغادرة فلسطين، وتمت محاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين، وتحررت القدس، وهنّأت الدول العربية والإسلامية حكومات وشعوبا، قيادات المقاومة، على هذا النصر المبارك، ولم يعد هناك حديث لوسائل الإعلام العربية سوى تمجيد المقاومة، التي حررت فلسطين.

 

أجزم وأقسم غير حانثة، أنه لو جرت الأحداث في فلسطين على هذا النحو، لما وجدت قلما أو لسانا ينطلق للنيل من المقاومة، وتشديد النكير عليها واتهامها بأنها سبب الدمار الذي لحق بالقطاع، وأنها قادت فلسطين إلى الدمار.

 

إشكالية كبرى متعلقة بثقافة التقييم لدينا كعرب، وهي التلازم بين الدوافع والنتائج، لا نبحث في دوافع المعركة، ينصب تركيزنا كله على نتائجها، ونؤخر تقييم الدوافع إلى حين حصد النتائج، فإن جاءت النتائج جيدة تُمدح الدوافع، وتتم منطقتها وتسويغها واستحسانها، لكن هذه الدوافع يكال لها النقد والذم إذا لم تؤل إلى نتائج جيدة. هذا المسلك، لا يقره شرع مُنزل، ولا عقل سليم، ولا منطق سويّ، لأنه يفترض ما لا يمكن حدوثه، يفترض أن يتنبأ الإنسان بالمآل. الدوافع وحدها كانت كافية لإطلاق عملية طوفان الأقصى، فاليمين الإسرائيلي المتطرف، أوصل السيل إلى الزبى، ومارس كل ألوان البطش والقمع ضد الفلسطينيين، وحاصر قطاع غزة، ووصلت محاولات تهويد الأقصى إلى مراحلها الأخيرة، واستكان المجتمع الدولي للحل الإسرائيلي، في ظل غياب عربي فاعل، وسلطة فلسطينية تجهض كل صوت وكل محاولة للتصدي للصهاينة وتحرير الأرض، وتمارس دور عصا الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، خلال عقود رفعت فيها شعار الحل السلمي ولا للمقاومة، فهل بقي من شيء يتأخر من أجله قرار العملية؟

 

الذين يطنطنون حول عدم تكافؤ القوة واستعجال القتال قبل الإعداد، مفرطون حتما في الأوهام أو التحامل، فهل كان يُنتظر من المقاومة مثلا أن تمتلك أسلحة نووية وجيشا نظاميا وطائرات الفانتوم ودبابات ميركافا حتى تخوض حرب التحرير؟ قطعا لا سبيل للمقاومة إلى تكوين جيش نظامي ولا الوصول إلى هذه القدرة التسليحية، لأنها تحيا في بيئة مُحتلّة ومحاصرة، إضافة إلى ذلك فإن هذه الحرب، التي لا تزال تدور رحاها بعد حوالي ستة أشهر، وهي أطول حرب خاضها الاحتلال، قد أظهرت القدرة العسكرية الهائلة للمقاومة، في حدود الممكن، فيما يتعلق بالتسليح والإعداد الفردي، والقدرة القتالية العالية للأفراد، وامتلاكها قوة صاروخية هائلة، وتفوق التكتيكات القتالية والخطط الهجومية، كما أظهرت قدرة وامتداد الأنفاق وتشعبها على مساحات واسعة تحت الأرض وبراعة استخدامها في العمليات الحربية. حركات التحرر لم تقم يوما في التاريخ على مبدأ تكافؤ القوى، فهذا محال، إذ أنها تنشأ وتعمل تحت ضغط شديد، ورقابة صارمة، وعمالة تجسسية داخلية تنشأ مع كل وجود للاحتلال.

 

لم تخض حركة تحررية نضالها إلا استقواءً بعدالة قضيتها وحقها المشروع في نيل الحرية والاستقلال، وتعمل على استنزاف قوى العدو المحتل وخلْق حالة ثورية عامة على المدى البعيد، وإرغام المجتمع الدولي على التعاطي بفاعلية مع قضيتها. لم تناضل حركة تحررية بضمانات آنية حالية للنصر، إنما هي تتحرك على الأرض لتتراكم الجهود التي تقود يوما إلى النصر، وفي هذا الطريق تُسال الدماء، وتُدمّر المنشآت، وتنهب الخيرات، ويُعتقل المسلح والأعزل على حد سواء، لأنها ضريبة عامة يدفعها الوطن بجميع من فيه لنيل الحرية. لو اتبعنا مسلك هؤلاء الذين يقيمون المعركة بنتائجها لا بدوافعها، سيكون عليهم اتباع المسلك نفسه بصورة عكسية، فيمكنهم حينئذ مثلا أن يمتدحوا جيش الاحتلال ويعترفوا به وبأحقيته في فلسطين إذا انتصر على المقاومة، ويمتد هذا المنطق ليشمل الانحياز لكل قوى الاحتلال على وجه الأرض طالما أنها تنتصر في النهاية.

الذين أرادوا إدانة الخيار الفلسطيني باتباع نهج المقاومة السلمية لغاندي في الهند للتحرر من الاحتلال، غاب عنهم أن سلمية غاندي وحدها لم تكن لتكفل عملية التحرير، لأن هناك العديد من الجماعات والكيانات لم تسر على نهجه السلمي، بل قاومت وقاتلت وكبّدت بريطانيا خسائر فادحة في المعدات والقطع الحربية، وفي صفوف الجنود الإنكليز، وهو ما كان له صدى قوي في لندن التي كانت تستقبل الكثير من القتلى والمصابين من جنودها من حين لآخر، فكان مسلك غاندي أحد الأدوات التي انضم بعضها إلى بعض في عملية التحرير، من مقاومة مسلحة، ومقاطعة اقتصادية، وحراك دبلوماسي، وجهود توعوعية لكف الهنود عن العمل في المؤسسات البريطانية..

 

متى ندرك أن أهل مكة أدرى بشعابها، ومتى يكف القاعد على أريكته تحت المكيفات عن الإفتاء لباذلي العرق والدم في فلسطين، فليكفوا شرهم كما كفوا خيرهم عن أهل فلسطين، وليكفوا عن تبني وترديد الرواية الإسرائيلية التي تُحمل المقاومة مسؤولية الدمار الذي ألحقه العدوان الإسرائيلي بالقطاع، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.