إيران من الداخل
بقلم/ د. محمد جميح
نشر منذ: 12 سنة و 6 أشهر و 7 أيام
الإثنين 07 مايو 2012 05:13 م

تتخذ إيران استراتيجية واضحة في تصدير، ليس فقط ثورتها الخمينية، ولكن مشكلاتها الداخلية أيضا، تنتهج طريقة خوض المعارك على أرض الخصوم، ودفع كرة اللهب بعيدا عن تناقضات الداخل الإيراني حتى لا تزداد جذوة هذه التناقضات وتنفجر بملامسة الكرات التي تقذفها إيران بعيدا عن شباكها.

تدرك إيران أن أوضاعها الداخلية ليست على ما يرام، وأن أدنى كرة لهب تقترب من حطب هذه التناقضات سيجعلها تشتعل داخل الحدود الإيرانية، وهذا ما يفسر استماتة إيران في فتح جبهات خارج حدودها لمشاغلة أعدائها، وتخفيف الضغط عليها. لا تهتم إيران بقدر الخسائر البشرية التي تحدثها معاركها الجانبية، ولا تلقي بالا للشروخ التي تحدثها سياساتها بين شعوب المنطقة، وداخل الشعب الواحد، ولا تكترث لطول ألسنة اللهب ما دامت تندلع في اليمن والعراق ولبنان والبحرين وسوريا، ولا يمكن تصور إيران حريصة على وحدة الصف المسلم، إلا إذا تصورنا أن الوحدة التي ينشدها نظام الملالي، وحدة تسلم للولي الفقيه ونائب الإمام الغائب مقاليد الأمور، وما في ذلك من إرادة لفرض لون سياسي وطائفي واحد على شعوب المنطقة.

حروب إيران خارجها تعطي لإيران ثمرة أخرى تتمثل في أن ينظر إليها الآخر على أنها دولة متماسكة من الداخل لا يمكن ضرب نسيجها الاجتماعي، ولذلك لا تريد إيران أن يلعب خصومها اللعبة ذاتها معها، ولو لعبوا اللعبة ذاتها لوجدوا النتائج ذاتها التي تجدها إيران من خلال إدارة الحروب خارج حدودها.

وعلى ذلك، فإن على العرب اليوم أن يلعبوا اللعبة ذاتها مع إيران. إيران فيها سنّة وشيعة، وبالتالي فإن الدخول على خط المظالم التي يعانيها سنّة إيران أمر مطلوب، خصوصا أن هناك إحساسا بالظلم الفادح لدى أغلب الطائفة السنية في إيران التي لا تملك مسجدا واحدا لها في عاصمة الولي الفقيه. في إيران عرب الأحواز، وهم أشقاؤنا في القومية والدين، وأرضهم أرض عربية، ولهم تاريخهم وكياناتهم السياسية التي لا تستطيع إيران محوها. دعم الشعب العربي الأحوازي لنيل حقوقه الثقافية والاقتصادية أمر مطلوب، دعم العرب الأحوازيين سيخفف الضغط على العرب السوريين واليمنيين وعرب الخليج، مجرد التلويح بدعم المطالب المشروعة للشعب العربي الأحوازي سيجعل راسم السياسة الإيرانية يدرك أن بيته من زجاج.

وفي إيران كذلك أكراد يشعرون بالتمييز العنصري ضدهم ويقومون بمقاومة مسلحة لنيل حقوقهم التي وجدوها في العراق ولم يجدوها في إيران، وفيها بلوش سنّة وأذربيجانيون مضطهدون، يتحتم على العرب مد جسور التواصل معهم، لتشعر إيران أنها ليست الوحيدة التي تجيد الرقص على أكثر من حبل في الحين ذاته. على العرب أن ينطلقوا في علاقاتهم مع إيران من منطلق الندّية، وفقا لسياسة «كما تدين تدان»، وهم أكثر قوة، وأوفر موارد حال اجتمعوا على سياسة واحدة تجاه أطماع إيران في مقدرات شعوب المنطقة. لا ينقصنا شيء سوى استراتيجية واضحة للمواجهة، دون أن أعني المواجهة العسكرية، ولكن المواجهة الدبلوماسية والثقافية والاقتصادية ومواجهة إيران من داخلها.

الحقيقة أن النظر إلى إيران من بعيد يظهر قدرا كبيرا من التجانس داخل نسيج لوحتها، غير أن الاقتراب أكثر من اللوحة يجعل القدرة على تمييز تناقضات الفسيفساء أكبر، وهذا ما يلزم العرب لفهم نقاط ضعف إيران في الوقت الراهن. ولا ينبغي أن نمر هنا دون أن نعرج على دور الإعلام العربي الموجه إلى الشعوب الإيرانية، فإذا كانت إيران تمول ما يقترب من أربعين فضائية ناطقة باللغة العربية تبث الحقد والكراهية الدينية والتفرقة الطائفية، وتعج بالشعوبية الصارخة ضد العرب، فلا أقل من توجيه عدد من القنوات الفضائية الناطقة باللغة الفارسية على سماء إيران، وعندها سوف تعرف إيران أن ما لديها من هشاشة اجتماعية أكثر مما تتصور هي أو يتصور العرب.

إيران تشبه اليوم في أساليبها المستعمر الأوروبي القديم الذي كان يتدخل في بلادنا بحجة حماية الأقليات المسيحية العربية عندنا حتى سيطر بالكامل على معظم الأراضي العربية. والشيء ذاته تفعله إيران اليوم بالتدخل في الشؤون العربية بحجة حماية الأقليات الشيعية العربية حتى يتسنى لها النفاذ من خلال ذلك إلى ما تراه استحقاقات تاريخية إقليميا ودوليا. وكما لم تكن الأقليات المسيحية العربية هي السبب الحقيقي لدخول المستعمر الأوروبي إلى بلداننا، فإن حماية الأقليات الشيعية العربية ليست بالسبب الحقيقي وراء لهاث إيران المسعور للتدخل في شؤوننا، الهدف واضح، هو السيطرة على مقدرات المنطقة، وكسر إرادة شعوبها وفرض هيمنة إقليمية. ولو كانت حماية الشيعة العرب هي الدافع لإيران لكان الأجدر بها أن تعطي الشيعة من الأجناس الأخرى في إيران كامل حقوقهم، بدلا من فرض اللغة الفارسية عليهم، ومنعهم من الحفاظ على تراثهم الثقافي.

ليس أمام العرب اليوم من خيار إلا نبذ الفرقة والالتفاف حول مشروع عربي يمكن أن نقول إن ملامحه بدأت بالتشكل مع توقان شعوب المنطقة إلى الحرية والعدالة، وفي هذا الصدد يمكن التذكير بأن العرب يستطيعون اللعب على ورقة التوازن الإقليمي بالتنسيق مع الأتراك لكبح جماح التهور الإيراني. تركيا على الأقل تحاول الاقتراب من العرب لمناكفة الأوروبيين، فلماذا لا نحاول الاقتراب منها لمناكفة إيران؟ خصوصا أن الأتراك أصحاب مشروع حضاري مدني في ما يبدو، والتجربة التركية أكثر نضجا وأقرب إلى إيقاع العصر والحداثة من نظام الملالي الذي لا يزال يعتقد أن المهدي الغائب يتحكم في أركان الكون كيف يشاء.

أعلم أن وكلاء إيران العرب سيقولون إن هذا ضرب من محاولات استبدال إيران بإسرائيل في خانة العداء، وهذه حجة لا تستحق الرد عليها لأن قائليها لم يستطيعوا إلى اليوم إثبات أن إيران تسعى حقيقة لمحو إسرائيل من الخارطة كما تدعي، ولأن إيران وإسرائيل تتبادلان تقديم الخدمات الجليلة بعضهما إلى بعض على حساب الطرف العربي. إيران بسياساتها تقدم لإسرائيل الخدمة التي تريدها من التفاف دولي حولها بحجة تهديدات إيران، في الوقت الذي نعلم فيه أن إسرائيل ترى أن الصراع مع العرب - وليس مع إيران - هو صراع وجودي، وإسرائيل تعطي إيران مشروعية طموحها النووي الذي لا يشك عاقل بأنه غير موجّه إلى إسرائيل التي تمتلك سلاح الردع الاستراتيجي، وإنما إلى العرب الذين لا يملكونه، وكذا إسرائيل تعطي إيران خدمة الظهور بمظهر المدافع عن الأمة الإسلامية في وجه قوى الاستكبار العالمي، تلك القوى التي لم تكتوِ بنار إيران كما اكتوى بها العراق واليمن ولبنان وغيرها من الدول العربية.

أعلم أن وكلاء إيران سيقولون إما أن تكون مع محور الممانعة ومشروع المقاومة ممثلا بإيران ونظام الأسد، وإما مع محو أميركا وإسرائيل الملعونتين في شعارات إيران لا ممارساتها، أعلم ذلك وأقول: وتلك حكاية سخيفة مللنا من ترديدها، فالمقاومة في عرف إيران هي مقاومة طموحات الشعب العربي السوري في حياة حرة كريمة، لا غير، ثم إن القول على العرب الاختيار ما بين إيران وإسرائيل قول فيه قدر كبير من المغالطة؛ إذ لا يتعين علينا أن نختار بين مشروعين يتنافسان على احتلال أراضينا ونهْب ثرواتنا والتحكم في مقدرات شعوبنا. من الإجحاف القول إن علينا أن نختار ما بين رعي الجِمال عند أحمدي نجاد أو الخنازير عند نتنياهو، كما قال يوما أحد أقلام إيران في بلادنا، بل الصحيح أن خيارنا الوحيد هو أن نرعى إبلنا نحن، ومن أراد منا أن يرعى جِمال نجاد أو خنازير نتنياهو فهذا شأنه، لكنه لن يفرض علينا أن نختار ما بين الشيطان الأكبر الأميركي والشيطان الأكبر الإيراني، لأن الخيار بين شيطان وآخر نوع من الإجبار، لا خيار فيه، وهذا ما يريد أن يوصلنا إليه المبشرون بالمشروع الإيراني في منطقتنا العربية.