يمانيون على ضفاف النيل ..مواقف ومشاهد(5)
بقلم/ ابراهيم الجهمي
نشر منذ: 14 سنة و أسبوع و يوم واحد
الإثنين 01 نوفمبر-تشرين الثاني 2010 11:52 ص

الحلقة الخامسة / في اليمن ضُِربَ وأُهين .. وفي مصر أُكرم ونال حظاً بالغاً وشهرةً واسعة ... قصة نجاح

عرفته منذ ثلاثة وعشرين عاماً ... في صنعاء .. كنتُ فتىً يافعاً .. ذهبتُ كضيفٍ مع زملائي بمدرسة تحفيظ القرآن الكريم .. إلى مدرسة التحفيظ التي يدرس بها صديقنا .. كان يوم خميس وكنا (على صغرنا ) صائمين .. وبعد أن إنتهينا من وجبة الإفطار .. وصلاة العشاء .. كنا على موعد مع حفل سمر في مدرسة صديقنا و كان صديقنا من أبرز المشاركين في مسرحية بسيطة الأداء .. بالغة التأثير .. فيها قفشات مضحكة ونهاية مبكية محزنة ..

والمسرحية ببساطة تحكي حياة شباب ضلوا الطريق .. جمعتهم ملذات الدنيا وشهواتها .. وبينما هم في طريق الغواية .. ينتظرون صديق لهم ذهب لجلب أفلام (خليعة) إذ يصل الخبر بوفاته في حادثٍ وهو في طريقه لإحضار الأفلام ... وعلى الفور يتنصل كل واحد منهم من الموقف ويتهرب من الحدث .. ويتنكرون لصديقهم الذي لقي حتفه .. وبينما نحن نستمتع بمشاهدة المسرحية ... فجأة .. إنطفأت الأنوار ... وخرج إلى المسرح صديقنا يحمل (كشاف ) صغير ليسلط الضوء على جنازة وهمية .. وقد لفوا أحد الشباب بقماش أبيض .. وقام صاحبنا ينشد وبصوت بالغ التأثيرقصيدة:ليسَ الغريبُ غريبَ الشامِ واليمنٍِ **إنً الغريبَ غريب اللحدِ والكفنِِِ وكان المكان مظلماً إلا بصيص ضوء من المصباح الذي بيده .. والموقف مفزعاً وصاحبنا ينشد بصوتٍ حزين تلك القصيدة الطويلة ... واندفع الحاضرون بالتأثر وبالبكاء وأنهمرت الدموع ... وكان مشهداً مؤثراً أبلغ من عشرات المواعظ ... تلك المسرحية ساهم صديقنا على صغر سنه في تأليفها وإخراجها .. والتمثيل فيها أيضا... أردتُ من هذه المقدمة التأكيد على نبوغه في التأليف والمسرح منذ صباه..

وبعد ذلك إنتقلتُ لمدرسة أخرى جمعتني بصديقنا في تلك المدرسة ... وهو يكبرني بثلاث سنوات دراسية .... وكنا نشتركُ أحياناُ في أنشطة المدرسة .. ونلتقي في الرحلات والحفلات ... وكان هادئاً .. مبدعاً ... في مجال المسرح والإنشاد .. ووالده أستاذ فاضل حرص على تعليم إبنه وتثقيفه في شتى مجالات العلوم المختلفة .. وكان يرغبه بقراءة كتيب كل يوم .. ويطلب منه تلخيصه في ورقة ... ويشدد عليه بإغتنام الوقت واستغلاله فيما يفيد ..

وبعد أن تخرج صاحبنا من الثانوية العامة عمل محرراً صحفياً في صحيفة أسبوعية شهيرة .. ومع بداية عمله بتلك الصحيفة قام عام1991م بتغطية الإستفتاء على مشروع دستور دولة الوحدة .. وقد عارضتْ بعض القوى السياسية مواد رئيسية في الدستور.. ولأجلها دعتْ لمقاطعة الإستفتاء على الدستور ... وأصرّ الحزبان الحاكمان (المؤتمر والإشتراكي ) على تمرير الدستور والإستفتاء عليه ... وأعلنت الحكومة بنسبة هائلة وإقبال كبير لعدد المصوتين على الدستور والمؤيدين له ... ! وأن المواطنين تزاحموا على أماكن الإستفتاء.... وووووو

وقام صاحبنا بتحرير صفحة كاملة مؤيدة بالصور ُيظهر فيها أعضاء لجان الإستفتاء وهم (مخزنين) ومتكئين على صناديق الإقتراع .. ولا وجود لمواطنين وَسِخرَ من تصريح الحكومة ... كاتباُ ببنط طويل وعريض عبارة زحمه يادنـيا زحـمه ..... وأنتشرت الصحيفة ونفدت جميع نسخها وتناقل الناس خبر المقال ... وأُعجب الكثير ببراعةِ الصحفي المستجد ... 

وبعد يوم من صدور الصحيفة وبينما صاحبنا يمشي في الطريق العام ... فوجئ برجال الشرطة يستوقفونه و يضربونه بعنف ويخطفونه من قارعة الطريق متجهين به إلى قسم الشرطة وكان في إستقباله مدير القسم الذي باشره بالضرب والركل واللطم و الشتم وكان يردد عليه عبارة ( زحمه يادنيا زحمه )؟ وأحدثوا به آثاراً بليغة وجروح وكدمات وتركوه والدماء تقطر من جسده ... وكان العدد القادم للصحيفة يحكي قصة صديقنا وما تعرض له ومدعوماً بالصور التي تبين آثار الضرب والتعدي عليه ... وعلى ما أظن هذه أول واقعة تعدي على حرية الصحافة بعد الوحدة ... ! وأستنكرتْ بعض القوى ما حدث لصاحبنا وأرعدوا .. وهددوا .. وأصدروا بيانات منددة .. ومستكرة.. وموعدة .. ومفجعة.. ومصعدة .... ! ووصل الموضوع بعد كل ذلك الى تحكيم قبلي لدى شيخ كبير ... بحيث يعتذر رئيس قسم الشرطة ويهجر بثور ! لبيت الشيخ ..

شعر صاحبنا بالحسرة .. وأصيب بخيبة الأمل .. وزاد الألم في قلبه .. علاوة على آلام جسمه ... مما حل به وبالطريقة المهينة التي قيل له بأنه قد رد إليك إعتبارك ! وتسائل بأي حق أُضرب ؟وبأي شريعة تسوى القضية أجابوه : (بين أصحابك مخطئ ولا وحدك مصيب ) فرد عليهم أنا مواطن لي حقوق وعلي واجبات كفلها وحددها الدستور والقانون وأطالب بتحويل الجاني والمتعدي إلى المحكمة .. والقضاء يفصل بيننا ! قالوا له هناك توجيهات عليا بتهدئة الأمور والبلد والوضع وال...ويجب أن تدرك طبيعة الوطن وهكذا تسوى الأمور

وأدرك صاحبنا حينها بأن هذا البلد يحكمه قانون القوة والتسلط فوق أي قانون ... وشرع القبيلة ... يغلب دستور الشعب الذي صوت الناس عليه .. ! فلا كرامة لضعيف.. ولا منعة لصاحب قلم شريف .. ولا مستقبل لمجتهد .... ولا تكريم لأي مثابر ... ولا ترفيع لأي وطني مخلص لوطنه وأمته .. ولم يجد صاحبنا أي تعاون حقيقي أو سند قوي ..حتى من الصحيفة والحزب الذي تمثله الصحيفة... والشيخ زعيم الحزب الذي ُيعد من أكبر مشائخ اليمن إكتفى بقبول الإعتذار وبذلك سويت المشكلة .. ُحلتْ المشكلة ولكن صاحبنا شعر بالاسى والحزن وبالظلم الذي حل به دون جرم إقترفه أو قانون خالفه فلم يكن قاطع طريق أو متطرف إرهابي .. أو مسؤل حرامي !

َخفتَ صاحبنا كما تخفتُ الأوتارُ بعدَ رنينها ... وقرر الرحيل عن هذا الوطن ... والبحث عن وطن بديل يجد الأمن والأمان .. ويلاقي التشجيع والترفيع .. ويقدر العمل الجدير .. ويكافئ المجتهد .. ويكرم المبدع والنافع

سافر الى مصر والتحق بكلية الإعلام ... وبالإضافة إلى إهتمامه بدراسته كان يثابر على مطالعة الكتب والمجلات والصحف وكل وسائل الإعلام ويحضر الندوات والمهرجانات الأدبية والثقافية ... وحتى أنه لم يسلم من أبناء جلدته وزملائه ... فقد كان يسكن مع بعضهم وضايقوه بحجج تفلته وإهتمامه بالمجلات والصحف والروايات التي يقولون عنها بأنها هابطة ...! ووصل الحد إلى أن طرده زميله من الشقة ... بل وأصل إلى والده معلومات تفيد بضياع إبنه في مصر وأنه يذهب إلى السينما و...,, وسبحان الله لو تعلمون أين زميله الآن ؟ والفرق بينهما ؟ لا مجال للمقارنة !!

وسافر صديقنا للدراسة وانقطع عن العودة لليمن !! وفي مصر لامس الحياة مرة أخرى لمس المتفائل الراضي لا المتبرم الساخط وكان ميله الجامح للصحافة والأدب وحاجته لحياة أفضل كانا يقذفان به للنجاح والتفوق .. وتخرج من كلية الإعلام وكان الأول على دفعته بدرجة إمتياز مع مرتبة الشرف ... وخلال فترة دراسته تكومت لديه ثقافة غزيرة .. ومعرفة كبيرة بالأدباء والكتاب وعلاقة وطيدة مع المؤلفين والمخرجين والممنتجين وشباب الممثلين ... وأصبح يكتب المقالات هنا وهناك في الصحف والمجلات وانتظم له عمود في جريدة شهيرة ... وله مقالات ممتعة وهادفة وساخرة .. وانتشرت له عدة كتب ساخرة وناقدة ... وقدم برامج في بعض المحطات التلفزوينية وشاهدناه كثيراُ مبدعاً ولامعاً وناجحاً في مايقدمه من برامج وحوارات ونافس وزاحم كبار الكتاب والمؤلفين ... والأهم من كل ذلك كتب سيناريو وحوار العديد من الأفلام الشهيرة التي لاقت نجاحاً واضحاً وشعبية كبيرة وتمتاز أفلامه بالبعد عن الإثارة والإغراء وجذبت الجمهور نظراً لتميزها في محاكاة أحوال الناس وظروفهم وملامسة معاناتهم وتطلعاتم .. وتسابق عليه المنتجون والمخرجون وحتى الممثلين ليرتبطوا بأعمال ناجحة معه .. وحصل على العشرات من الجوائز وظل لسنوات أكبر مؤلف وكاتب قصة (سيناريست) في مصر لعدة أعوام على التوالي وغدى اليوم متجولاً على عواصم العالم هنا وهناك للمشاركة في ندوات ومحاضرات ومهرجانات وأعمال فنية ... ورزقه الله من واسع فضله وأكرمه بحياة سعيدة أدامها الله عليه ...

وقبل سنوات زارني بشقتي و جلسنا وهو والأستاذ عبد الرحمن النمر في سهرة مطولة حتى الفجر نتذاكر أيام صنعاء وأفراحها وأحزانها ... وتطرقنا الى النكسة التي كره اليمن بسببها .. ولكنه مازال يحب الأكل اليمني بشدة ..

وأتواصل معه أحياناًً بالتلفون .. وأراه يبعد أكثر وأكثر عن وطنه وأسرته بل وذكريات الصبا وأيام الطفولة .. ومازالتْ تلك الأيام المؤلمة معشعشة في ذكراه ومحت كل شيئ عن اليمن ... وقد حصل على الجنسية المصرية .. وكلما دعوناه إلى نشاط أو حفل أو مناسبة في الجالية أو في السفارة يعتذر ...

وبعد مرور عشرين عاماً ما نسي صاحبنا الظلم الذي حل به فالظلم لا يسقط بالتقادم .. وإن كان ظالمه فر من عدالة الأرض فلن يفر من عدالة السماء وإن نجى من عقاب الدنيا فلن يفلت من عقاب الآخرة ولا بد من للمظلوم من أن يقتص من ظالمه ( ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون * إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار )

وفي الختام أتمنى أن يؤخذ من الموضوع العبرة وأرجو أن لا يحاول أحد القراء أن يبحث عنه أو يسعى إلى معرفته أو أن يعقب بذكر إسمه ... وليكتفي من قصته بمكان العبرة منها , إذا كان قد بقي هناك من يحرص على العبرة أو يسعى إلى الإعتبار .

الحلقة القادمة / أحدث أساليب النصب على بعض اليمنيين القادمين الى مصر ..