تونس بين عريضتين
بقلم/ محمد كريشان
نشر منذ: 3 سنوات و أسبوع و يوم واحد
الأربعاء 10 نوفمبر-تشرين الثاني 2021 07:47 م
 

للتونسيين مع العرائض وتوقيعها قصة. إنها إحدى وسائل تعبيرهم التقليدية الأكثر انتشارا وإن ظلت بين مد وجزر.

«بعد خطابات التخوين، السعي إلى سجن المعارضين»… هذا هو عنوان آخر عريضة وقعتها كوكبة من النخبة التونسية للتنديد ببطاقة الجلب الدولية التي أصدرها القضاء التونسي بحق الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي، وفيها نددوا بشدة «بهذا الإجراء التعسفي الذي يأتي في سياق خطابات التخوين والكراهية وترذيل المعارضة التونسية، وهي سياسة انتهجها الرئيس قيس سعيد منذ 25 يوليو/ تموز في محاولة لإسكات كل من يعارض انفراده بالسلطة».

إذن هي عريضة موجهة وبكل قوة إلى الرئيس التونسي شخصيا، بلا لف ولا دوران، وبذلك قد تكون الأولى التي حملت هذا الطابع بدون مجاملات، فأصحابها لم يكتفوا بـ «رفضهم القاطع لأي محاكمة ذات خلفية سياسية وكيدية» بل أضافوا كذلك «تنديدهم بكل أشكال الضغوطات التي يعتمدها رئيس الدولة قيس سعيد على السلطة القضائية وتدخله في أعمالها (..) إضافة الى الإجراءات التي اتخذها هو نفسه منذ 25 يوليو/تموز 2021، مع ما صاحبها من محاكمات عسكرية للمدنيين ومنع مواطنين من السفر ووضع آخرين تحت الإقامة الجبرية دون أذون قضائية أو حتى أسباب معلنة وكذلك الاعتداءات على الدستور والهيمنة على كل مفاصل الدولة» معتبرين أن كل ذلك هو الذي سيؤدي إلى «مزيد من تشويه سمعة تونس في الخارج وتعمق عزلتها».

العريضة التي أشارت بلا مواربة إلى الرئيس سعيد باعتباره المشكل الحقيقي للبلاد تعيد إلى الأذهان تلك العرائض التي كانت تكتب ضد الرئيس بن علي والتي كانت، على قلتها وتجنب إدانته الشخصية المباشرة، تمثل حدثا بارزا لجرأتها ولأهمية الموقعين عليها والتي نجد الكثير من بينهم في هذه العريضة الجديدة إذ من بينهم جامعيون ووزراء وسفراء سابقون ونشطاء حقوق إنسان ومحامون وقضاة ورؤساء جمعيات وازنة.

كانت العرائض إحدى أبرز الوسائل النضالية في عهدي بورقيبة وبن علي في غياب قنوات التعبير المعارض وتمثل الآن نوعا من الإحساس بمخاوف عودة تلك الأجواء الخانقة مع سعيد المصحوبة بنوع من الخوف بدأ يدب في مفاصل أحزاب وجمعيات وشخصيات بعد أن ظن الجميع أن الخوف ولى بلا رجعة.

الجميل في العريضة التي نتحدث عنها هي أنها ضمت شخصيات قد تكون في أغلبها من غير المؤيدين للرئيس الأسبق المرزوقي، بل إن بعضهم كانت له معه مشاكل شخصية، وهو ما دعا أحد الموقعين أن يكتب ردا على من خلطوا المواقف المبدئية بالموقف من الرجل وسياساته بالقول: «أن تتضامن مع شخص، مهما كانت توجهاته، يمر بمظلمة أو يتم التعسف على حقوقه أو تمتهن كرامته… فذلك لا يعني أنك تسانده فيما يقول أو يفعل، بل ربما أنك قد تكون من أشد معارضيه. ولكن واجب الدفاع عن الحقوق والحريات ودولة القانون يفترض منك التخلي عن مواقفك الشخصية ورؤيتك السياسية وتستحضر في المقابل قيم الإنسانية والديمقراطية والحقوق». مثل هذه العقلية تراجعت كثيرا للأسف في تونس في السنوات الماضية لتحل محلها المناكفة والافتراء مع من نكره والمسايرة والمجاملة لمن نحب في غياب أي مرجعية مبدئية.

هذه العريضة تمثل النقيض تقريبا لعريضة أخرى صدرت بعد أقل من أسبوع من إعلان قيس سعيد عن إجراءاته حين استعجل ثلاثون من مثقفين وكتاب وجامعيين القول «إننا ندعم استجابة الرئيس قيس سعيد لمطالب الشعب التونسي ولا نعد ذلك انقلابا على الدستور ولا على الشرعية (..) وندعو الدول الصديقة إلى مساندة اختيارات الشعب التونسي التي تضمن له الكرامة والعزة والحرية (..) ونرفض رفضا باتا أي حوار مع المارقين عن القانون وأي تسوية مع الفاسدين أو أي عودة لهم إلى صدارة المشهد السياسي».

ومع أن أصحاب هذه العريضة، وبعضهم شكل صدمة أن يكونوا من بينهم، ذكروا أنهم «متيقظون إزاء أي إمكانية لعودة الاستبداد أو استئثار جهة واحدة بالسلطات» وأنهم «حريصون على الانتقال الديمقراطي وعلى الحفاظ على مدنية الدولة والحريات العامة» إلا أن لا أحد سمع لهم صوتا الآن بعد أن تدهورت الأوضاع وتبدد الرهان تقريبا على أن يكون ما قام به الرئيس التونسي «مسارا تصحيحيا» كما توهموا في البداية.

الخلاصة أن تونس بين العريضتين تغيرت كثيرا. من اعترض منذ اللحظة الأولى على إجراءات سعيد ازداد اقتناعا بوجاهة موقفه، أما من توسم فيها الخير فلم تعد له من حجة أمام ما يقوم به الرجل ويصرح، حتى أن أمين عام «حركة الشعب» وهو الوحيد تقريبا الذي ظل مفتونا بما يفعله الرئيس ويدافع عنه، لم يجد بُدا في النهاية أن يقول قبل يومين إن حركته لا تزال تدعم رئيس الجمهورية بشرط تحديد سقف زمني للإجراءات التي اتخذها، أما المفاجأة فهي قوله ”على رئيس الجمهورية أن يفهم أن القوى الوطنية في البلاد «موش كراية عنده» أي ليسوا بالمستأجرين لديه.

حتى أنت يا زهير مغزاوي!!

كاتب وإعلامي تونسي