|
بقليل من التوظيف المنطقي ، لسياقات وتضارب أنباء حادثة مسجد الرئاسة تنفتح أمام القارئ طرق كثيرة ، مؤداها احتمال يكاد يصل مرتبة المؤكد ، ولأن هذا الاحتمال المؤكد تكمن أهميته في أهمية ما يبنى عليه ، كانت هذه السطور . رغم أن تسارع الأحداث قد يبطل أهميتها عن طريق استباقه لتحليلاتها بما يؤكد أو ينفي يقيناً ما تريد هذه السطور أن تصل إليه .
عندما وقعت حادثة محاولة الاغتيال جاءت أنباؤها والأذهان في حالة شتات لا تسمح باستيعاب هذا النبأ ، وبالذات أن الكثير سمع بالخبر ـ وأنا منهم ـ عن طريق اتصال من صديق بسبب انطفاء الكهرباء ، ولكن وقع الخبر أيقظ أشياء كثيرة داخل الذهن ، وجعله يربط تطور المواجهات بين صالح وأنصار الأحمر بإمكانية تحقق الخبر ، وبالتالي فقد كان أنصار الأحمر هم المتهم الأول رغم المفارقة الكبيرة بين طبيعة العملية وضرورة احتياطات صالح الأمنية ، وبين معرفتنا بمدى قدرة أنصار الأحمر في سرعة ودقة العملية ، ما أكد ذلك هو ورود الخبر في بعض القنوات القريبة من الحدث بطريقة التأكيد بموت صالح ، ومن هنا بدا للمتابع أن هذا الخبر هو حقيقي ، وما تبعه من نفي بمبررات وشواهد شبه منعدمة كان هو الشك الذي يقترب من الكذب كلما أكثروا من النفي والتلفيق .
الخبر يتحول إلى فبركة
بعد انتشار الخبر واتجاهه بطريقة تلقائية إلى زاوية تحديد المسؤول عن العملية ، بدأت أخبار إصابة صالح بالخفوت عن طريق تصريحات خصومه أولاً ، الذين رجعوا عن صيغة تأكيد مقتله ، إلى تحليلات مفادها أن العملية مجرد إشاعات وأن صالح صنع الحادثة لإيجاد مبرر للقيام بهجوم وحشي ضد خصومه ، محاولين التوفيق بين رسوخ الخبر المؤكد لدى المتابع ، وبين إقناعه بأن صالح دبرها ونجا سالماً ، في أنه أراد أن يصفي القيادات التي أثنى عليها بيان القوة العسكرية المؤيدة للثورة ، وهنا بدأ إعلاميو صالح بإثبات العملية وتأكيد سلامة صالح وهذا بدوره ساهم إلى حد كبير في نقل الخبر إلى مربع آخر لا يتموضع فيه الجدل عند موته من عدمه ، بل عند بواعث ذلك ومحاولة تفسير الحالة التي وصل إليها صالح ، وعزز من ذلك خبر ظهوره التلفزيوني لطمأنة الشعب وتصريحات الخارجية الأمريكية التي تؤكد أن صالح لم يصب بأذى وأن العملية تضليلية .
الشكوك تعاود من جديد
لم يكن تصريح الخارجية الأمريكية إلى الحد الذي يكفي لتكذيب أي خبر لاحق يتعلق بتأثر صالح من الحادثة لأن عدم ظهور علي صالح رغم أن الكثير كان يفسره بمحاولة لإشغال الناس بالتحليلات ، إلا أن التسجيل الصوتي عمل على تبديد ذلك ، وبدأت قناعة الناس تعتمل داخل الشك المتزايد حول حقيقة التسجيل الصوتي ، مما يؤكد إصابة صالح البالغة ، إن لم يكن قد فارق الحياة .
ومن الطبيعي والمعتاد عندما يتأكد أمر ما ، أن ينتقل الجدل إلى ما يرافقه من احتمالات وخصوصاً حين يعود إلى الذهن ما يبعث على تصديق خبر مقتله ، فجاءت مؤكدات ذلك متسارعة من خلال ربطها ببعضها ، وقراءة الحالة النفسية للناطقين الإعلاميين الذي عبروا عن استيائهم من الحادثة بطريقة لا يخفى فيها التباكي رغم تذكيرهم للمشاهد دائماً أن الرئيس بخير ، وأنه يتوعد العصابة الإجرامية المسؤولة بما يناسبها ، محاولين نقل المشاهد إلى تخمين المسؤول عن ذلك ، رغم تلميحهم الواضح إلى أنصار الأحمر ، أو اتهامهم الصريح لأمريكا وبيت الأحمر أيضاً .
أنا شخصياً عندما سمعت سكرتير صالح يتهم أمريكا ، عرفت أن صالح ليس في وضع جيد ، لأن الجرأة والقفر السريع في اتهام أمريكا رغم عدم وجود أسبقية عداء قد تبعث على احتمال قيامهم بذلك ، خلق لدي قناعة شبه مكتملة في أن الحادثة سببت للنظام كارثة ، وأن الخدوش التي تحتاج لمجارحة بسيطة كذبة باهتة .
ربما لن يتوقف الأمر عند المتابع الحيادي ، لا المتابع الذي يريد أن تكون النتيجة كما يتمنى ، لن يتوقف الأمر عند احتمال الإصابة البالغة ، إذ لو كانت الإصابة وحسب لكان هناك احتمال أن يظهر صالح بجراحه ليتوعد المتورط في ذلك ، ويطمئن الشعب بخطاب بطولي يخيب فيه آمال ونوايا الأيادي الغادرة ، وهو بهذا سيكسب تعاطف شعبي كبير ، ويوقف شكوك الناس التي قد تتحول إلى تسليمهم أن صالح قتل ، وخلف هذه القناعة تتبلور مرحلة ما بعد صالح ، وهذا بحد ذاته يمثل خطورة كبيرة على بقايا نظامه سببها عدم ظهوره للناس .
تطور الأنباء عن حالة صالح الصحية ، كان عاملاً بارزاً في توجيه الخبر إلى خانة المؤكد لأن أول الأنباء جعل معلومة مقتله لا جدل حولها ،ثم حاولوا تكذيب ذلك بأن صالح لم يصبه شيء ثم إصابات طفيفة ، ثم شظية تحت قلبه ، واحتراق 40% من جسمه ، وانهيار احدى رئتيه ،ثم ضربة في المخيخ ، ونزيف في الجمجمة ، ثم فشل كلوي وانزلاق في العمود الفقري وكسور في الرقبة ، والملاحظ أن حالته بداية بحسب الأنباء استقرت عند الشظية التي بعمق 7سم عند قلبه ، ثم تسارعت بقية الآلام التي لا تمهل شخصاً في السبعينات على الحياة لساعات . حتى لو قالوا تمهيداً قبل هذا التسارع ( ان صحة صالح سيئة إلى حد لم نكن نتصوره ) لأنه لا يعقل أن تظهر الشظية ويقتصر فحص الأطباء لحالة صالح هناك ثم عند بداية مرحلة التجميل تظهر كل الآلام لاحقاً .
لا يستبعد أن يكون هذا تهيئة أو تمهيداً لإعلان استقرار حالة صالح الصحية والتي تعني بدلالة أخرى الموت ، إذ لا استقرار أكثر من الموت .
سفره إلى المملكة للعلاج ليس مقنعاً ،وببساطة شديدة نؤكد ذلك لأن صالح لو كان حياً لرفض إن كان بوسعه أن يومئ بالرفض ، أو بقايا نظامه فكرة السفر ، لأن مخاطر ذلك معروفة ، وهو الذي لم يعد يرى بوابة دار الرئاسة خوفاً أن يعود إلى الكرسي وقد أنكره ، فضلاً عن أن يذهب إلى الخليج لتوقيع مبادرة أو للعلاج . كما أن بمقدور مستشفيات كبار الدولة ومنها مستشفى مجمع الدفاع الذي بني لهذا الرئيس وكبار دولته ، بمقدورها أن تقوم باللازم طالما وأن الأمر لا يتعدى حريقاً واصابة طفيفة في الرأس ، كما هي الأنباء قبل سفر صالح ، وحتى المملكة باستطاعتها أن تسير على طائرتها أحدث مستشفى بيد أن طائرتهم التي حملت صالح هي أحدث مستشفى كما نعرف .
كل هذا ساهم في زراعة هذا الشك المتزايد ، ورافقه اتصالات لقنوات فضائية تحتكر الخبر الصحي عن حالة الرئيس ، وكانت هذه الاتصالات تتناول بطريقة الجزم موت صالح ، وتعيب على الإعلام محاولة اللعب بأفكار الشعب اليمني الذي من حقه أن يعرف أين يتجه النظام في اليمن . وينتابك كثير من الضحك والسخرية عندما ترد مذيعة أخبار العربية على الدكتور اليوسفي وهو يؤكد موت صالح قائلة ( شو هالكلام مراسلنا شافه وهو يمشي ) ولك أن تتخيل كم هو دليل سمج ، إلى حد أن وظيفة المراسل تقتصر على أن ( يشوف) لا أن يصور ، وبالذات أنه وحده من قال هكذا ولا أحد غيره في العالم رأى صالح وهو يطأ بعرجته قاعدة الملك خالد الجوية ، في قناة الجزيرة تسأل الإعلامية نائب وزير الإعلام اليمني عن سفر الرئيس من عدمه إلى المملكة ، فيجيب : الرئيس حي يرزق ، وصحته جيدة وليس هناك ما يستلزم السفر به إلى الخارج . وهنا يحاول عبده الجندي أن يجيب على سؤال في ذهنية المشاهد بالنفي ، رغم أن سؤال المذيعة لا يتعلق بموت الرئيس .
إذاً وحده النظام السعودي يملك الوقت المناسب لإعلان موت صالح ، ووحده مراسل العربية من (شافه) وهو يمشي ، ومن سيعلن خبر موته .
بأية حال قد نجد اعتراضاً يتعلق بما سبق حول عدم ظهوره ، وبالذات أن بعض الإعلامينن أفادته مصادره الخاصة أن الحروق تمنع صالح من الظهور أمام الكاميرا لشهور ، وقد أفادته مصادره بعد ازدحام تساؤل الناس عن عدم ظهور صالح ، وقد يعترض آخر على عدم تصوير مراسل العربية لصالح حين وصوله سليماً معافى يمشي برجليه في قاعدة الملك خالد بأن التصوير قد يكون ممنوعاً حينها،لكنا في زمان لا يستطيع فيه أي من المتحفظين إخفاء صوراً تتسرب لا إرادياً لخبر مهم كهذا .
والبحث وراء غاية إخفاء خبر موت صالح ، يؤكد لنا أن كل الاحتمالات واردة وأن إخفاء الخبر سببه ترتيب مدروس بدقة.
لماذا لم يمت صالح رسمياً ؟
في مقدمة الأسباب يأتي صرف أصابع الاتهام عن الجهة المسئولة ، واشغالهم بتضارب الخبر ،حتى لا يصلوا إلى اثبات موته إلا وقد أتيح لهم عمل سيناريو يسهل تصديقه ، بالذات أن هذا التعليل يتوافق مع تلك الآراء التي تستبعد تورط أي طرف محلي. ولست هنا بصدد مناقشة الفكرة والبحث وراء الحقيقة الغائبة ، فهذه لها وقتها ، وغموضها لن يطول كثيراً باعتقادي .
لكن يظل لإشكالية تأخير نبأ موت صالح ،أسباب أخرى أيضاً حتى لو ناسبتنا فكرة إدانة طرف خارجي . ولا تنافي فيما لو قلنا أن رغبة الوصاية والتحكم في مستقبل اليمن ، لا زالت تشكل أهمية كبيرة بل ضرورة ملحة لبعض الدول النافذة والتي دأبت على التعامل مع اليمن بأسلوب واحد. ولا شك أن ذلك يحقق لهم فرصة رسم ملامح النظام القادم ، كانت هذه الفرصة ستفوتهم لو لم يختطفوا هذه الخطوة من طريق الثورة والتي كانت ستصل إليها بطبيعة الحال ، بل اقتربت من تحقيقها وأوشكت على ذلك ، الأمر الذي دفعهم لاحتكار جثة صالح ، واحتكار كل المعلومات عن صحته بحسب أنبائهم ، وتوقيت خبر وفاته .
بالعودة إلى هاجس الخوف من الثورات التي تفتح شهية الشعوب العربية ،يتأكد لنا أن هناك من يقف بكل قدراته إلى إجهاض الثورات ، أو سرقة انتصارها وتحويل مسار التغيير إلى سياسة غير حضارية تعود بنا إلى ذاكرة السبعينات . ولو أن هذه الأنظمة تركت الأمر للثورة فإن هذا سيكون انتصار ثوري سلمي يفرض هيبته وسيطرته على السياسات الداخلية القادمة بما في ذلك تطهير البلاد من كل الفساد والمفسدين ، بمعنى آخر خلق فرصة تاريخية للتكتلات المعارضة لأخذ زمام الحكم بسيطرة تامة ، وإعمال وتنفيذ مطالب الثورة ، وحتى لا يكون للثورة الشعبية فضل على هذه الأنظمة ، كانت الولاية المتحدة والمجموعة الأوروبية حريصة أشد الحرص على تأخير خبر الوفاة حتى لا يرتفع سقف طموح اللقاء المشترك وغيره من التكتلات المعارضة ، ولأجل أن لا تموت المبادرة الخليجية أيضاً بإعلان موت صالح ، لأنها لو خرجت عن منظومة الحلول القادمة سيؤدي ذلك إلى خيبة أمل لدى الدول الراعية للمبادرة والتي شكلتها حسب صالحها لا صالح شباب الثورة .
ورغم كل هذه الأسباب إلا أنني أؤيد سبباً إضافياً أيضاً لا يتنافى مع سابقه وهو استغلال الوقت لترتيب البيت اليمني ، وتوطين النفوس وبالذات مشاعر المؤيدين حتى تبرد نزعة الانتقام والتي بمقدورها ستحول اليمن إلى ساحة حرب تهدد المجتمع الدولي بأسره .
كما أنه بات نفوذ أمريكا المنبني على أساس الشراكة في محاربة الإرهاب ، سيكون على المحك ، وبالتالي لا بد من استخدام عامل الوقت لخلق مبررات بقاء أخرى تساعد على استمرار هذا النفوذ .
وفي الأخير تبقى هذه قراءة بسيطة تحتمل أحكاماً كثيرة ، قد يكون من بينها الخطأ المحض . مع اعترافي سلفاً أنها لم تحظ بكثير من العناية ،لأسباب تتعلق بالوقت قبل أن تغير أي من المستجدات طريقها .
في الجمعة 10 يونيو-حزيران 2011 03:45:46 م