|
سنتعرف في الساعات الأولى من فجر هذا اليوم على هوية الساكن الجديد للبيت الأبيض، حيث ترجّح جميع استطلاعات الرأي انه سيكون باراك أوباما. ولا نبالغ إذا قلنا، اننا كعرب ومسلمين، كنا الناخب الرئيسي الخفي الذي حسم نتيجة هذه الانتخابات، مثلما سيحدد ملامح سياسات الادارة الأمريكية الجديدة، حتى لو جاءت النتائج عكس جميع التوقعات.
وعندما أقول العرب والمسلمين، فإنني لا اقصد انظمة الحكم، وانما الشعوب المغلوبة على أمرها، والمحكومة بالاستبداد والقمع، وبالتحديد المجموعات الحية التي قررت شق عصا الطاعة على الهيمنة الأمريكية، وحملت سلاح المقاومة ضد مشاريعها الاستعمارية في العراق وافغانستان وجنوب لبنان وفلسطين المحتلة.
التغيير الذي سيبدأ في أمريكا اعتباراً من اليوم على الصعد كافة، السياسية والاقتصادية والعسكرية، والاجتماعية، ربما كان سيتأجل لعقود قادمة، لو أن القرن الأمريكي الجديد تكلل بالانتصار، وسارت الأمور بالطريقة التي أرادها المحافظون الجدد في العراق وافغانستان، أي استقرار سياسي وازدهار اقتصادي، وخنوع كامل لمواطني البلدين المستهدفين من قبل المشروع الأمريكي.
حرب الاستنزاف التي شنتها جماعات المقاومة في البلدين، والانتصار الكبير الذي تحقق ضد الآلة العسكرية الاسرائيلية الجبارة في لبنان، وصمود أهل الأرض المحتلة في مواجهة خطط التجويع والحصار، كلها عوامل أدت منفردة، أو مجتمعة، الى افلاس الولايات المتحدة اقتصادياً بعد افلاسها عسكرياً وسياسياً، الأمر الذي دفع بالشعب الأمريكي إلى البحث عن عجلة انقاذ تخرجه من أزماته الحالية، وتقوده إلى بر الأمان الذي يتطلع إليه.
إذا فاز أوباما اليوم، فإن كاريزمته السياسية، وبلاغته الخطابية، وذكاءه الفطري الحاد، ليست كلها او وحدها التي أدت إلى فوزه، ووصوله إلى أقوى زعامة في العالم، بل زعامة العالم بأسره، بل هي الهزيمة الساحقة التي الحقها العرب والمسلمون بالادارة الأمريكية السابقة، وجعلها مكروهة أمام مواطنيها اولاً، وأمام العالم بأسره.
فلو سارت الأمور بالطريقة التي أرادها، وخطط لها جورج بوش، وديك تشيني والمحافظون الجدد في كل من العراق وافغانستان، وأقاموا دولة فلسطينية مسخا بشروطهم، لما تقدم أوباما في استطلاعات الرأي بأكثر من سبع نقاط على الأقل، ولما اتيحت له فرصة الاقتراب من البيت الأبيض.
وحتى إذا افترضنا ان الشعب الأمريكي، أو قطاعاً كبيراً منه، قرر أن ينحاز إلى جذوره العنصرية، وصوّت في الاقتراع السري بطريقة مختلفة، وللشخص الذي لم يصوت له في استطلاعات الرأي العلنية، أي لصالح جون ماكين، الجمهوري اليميني المتطرف، فإن هذا الخيار سيعني استمرار المأزق، وتفاقم المخاطر، وانهيار الولايات المتحدة الأمريكية، وان كنا، وما زلنا نعتقد بأن الشعب الأمريكي لن ينحرف إلى هذا الخيار، بعد أن اكتوى بنيران الجمهوريين ومحافظيهم الجدد وسياساتهم الدموية لأكثر من ثماني سنوات.
أيا كان الرئيس الأمريكي الجديد، فإنه سيجد نفسه في مواجهة مع العرب والمسلمين، فإذا أرادها مواجهة عسكرية، فهذا يعني استمرار الأوضاع على حالها، أي المزيد من الخسائر، وإذا أرادها مواجهة سلمية تقوم على الحوار والتفاهم، والاعتراف بالأخطاء واظهار كل جوانب الاستعداد لاصلاحها وبما يرضي جميع الاطراف، ويحفظ مصالحهم، فإنه سينقذ نفسه، وينقذ بلاده، وينقذ العالم بأسره من شرور الادارة السابقة.
صحيح أن الرئيس الأمريكي الجديد سيكون مشغولاً في سنواته الأولى بالأوضاع الداخلية الأمريكية، والاقتصادية منها على وجه الخصوص، واصلاح ما افسدته الادارة السابقة، واعادة الهيبة والاحترام لزعامة البيت الأبيض، ولكن حتى هذه المهمة تحتاج إلى تعاون قوي، وعلى أسس جديدة مع العرب والمسلمين وشعوبهم على وجه التحديد.
بمعنى آخر، سيحتاج الرئيس الأمريكي الجديد الى مخزون الثروة العربي الهائل الناجم عن عوائد النفط ، لاخراج الاقتصاد الأمريكي من عثراته، كما سيحتاج الى نفوذهم واحتياطاتهم النفطية الهائلة لتخفيض اسعار الطاقة، وفق معدلات معقولة، تساعد على عودة الحياة الى شرايين الانتاج الصناعي المتيبسة، واسواق المال التي تعاني من سكرات الموت البطيء بعد ازمة الرهونات، وتحويل اقتصاد العالم وبورصاته الى كازينوهات للمقامرين، الأثرياء والفقراء في آن.
غوردون براون رئيس وزراء بريطانيا، ووزير خزانتها لأكثر من عشر سنوات كان اول من اعترف بهذه الحقيقة، وشدّ الرحال الى عواصم الثروة العربية في الوقت الراهن، اي المملكة العربية السعودية وقطر ودولة الامارات العربية المتحدة، مستجديا مساعدتها، من حيث توظيف فوائضها المالية الهائلة في الاسواق الغربية، وصندوق النقد الدولي لتوفير السيولة اللازمة لتخفيف حدة الانهيارات الاقتصادية الحالية، وتخفيف آثار الانكماش الاقتصادي في العالم الرأسمالي الغربي.
الرئيس الامريكي الجديد سيحذو حذو الحليف البريطاني حتما، فلا خيار آخر امامه، وسيدرك جيدا ان اسرائيل التي ابتزت امريكا والغرب لأكثر من ستة عقود هي اساس معظم العلل والمصائب التي يعيشها الغرب حاليا بسبب سياساتها الاستفزازية الدموية، وان مصلحة بلاده ليست في شن الحروب لاذلال العرب والمسلمين في حروب صليبية باهظة التكلفة، وانما بمواجهة صريحة مع الاسرائيليين في الارض المحتلة، يقول لهم فيها 'كفى' كبيرة مدوية، كفى احتلالا، كفى اغتصابا، كفى قتلا، كفى استهتارا بالشرعية الدولية وقوانينها، كفى تعطيلا لعمليات السلام، كفى استيطانا في اراضي الغير، كفى عدوانا على الجيران.
العرب الرسميون يجب ان تكون مساعدتهم للرئيس الامريكي مشروطة بحدوث تغيير في سياساته في المنطقة، وإلاّ فإنهم سيخسرون مثلما سيخسر هو في نهاية المطاف، لان القوى التي هزمت المشروعين الامريكي والاسرائيلي ما زالت موجودة، بل وتزداد قوة وانتشارا.
التغيير الذي سيجتاح امريكا وسياساتها وهويتها المستقبلية لن يتوقف عند الحدود الامريكية، وانما سيتعداها الى الخارج، وسيصل حتما الى المنطقة العربية التي ظلت عصية عليه،ومغلقة بإحكام امام كل عواصف الديمقراطية والاصلاحات السياسية والاقتصادية. فالذي منع وصول التغيير الى هذه المنطقة دون بقاع العالم الاخرى، هي الإدارات الامريكية المتعاقبة المتحالفة مع انظمة الفساد والقمع، والآن نحن امام ادارة امريكية جديدة تريد انقاذ نفسها، والتعلم من اخطاء سابقاتها لانقاذ بلادها وشعبها.
نحن الآن لا نقف امام رئيس جديد، وإنما امام امريكا جديدة، وعالم جديد مختلف تماما، عالم لم تعد تسيطر عليه امريكا، عالم يشهد نمو اقطاب جديدة، ونمور اكثر شراسة وتعطشا للصعود. عالم تنتصر فيه جماعات مقاومة صغيرة، بأيديولوجية قوية متطرفة في ايمانها، على قوى عظمى، وتقودها الى الافلاس الكامل.
العالم يتغير بسرعة، وحقائق جديدة بدأت تطل برأسها، وتفرض نفسها على معادلات القوة والثروة فيه، والفضل في ذلك يعود جزئيا، ان لم يكن كليا، الى من هزموا مشاريع الهيمنة الامريكية ومحافظيها الجدد والقدامى على حد سواء.
* القدس العربي
في الأربعاء 05 نوفمبر-تشرين الثاني 2008 04:24:54 م