سقوط أمريكا1-2
بقلم/ أحمد عبده الشرعبي
نشر منذ: 16 سنة و 4 أسابيع
الإثنين 20 أكتوبر-تشرين الأول 2008 02:28 ص

كتب عالم الاقتصاد السياسي الأمريكي فرانسيس فوكوياما صاحب النظرية الشهيرة نهاية التاريخ، مقالاَ في مجلة نيوزويك الأمريكية بعنوان (The Fall of America) "سقوط أمريكا"، يقول فيه: "لن تحتفظ الولايات المتحدة بموقعها كقوة مهيمنة على المسرح الدولي والذي تمتعت به حتى الآن، وقد تأكد ذلك خلال غزو روسيا الأخير لجورجيا في السابع من أغسطس. كما أن قدرة أمريكا على تشكيل الاقتصاد العالمي من خلال اتفاقات التجارة وصندوق النقد والبنك الدوليين ستضعف، وكذلك بالنسبة لمواردنا المالية، وستصبح القيم والأفكار والنصائح وحتى المساعدات الأمريكية التي عملنا على نشرها في أرجاء العالم المختلفة أقل ترحيباً مما هي عليه الآن"، ثم أستدرك قائلاً:" إن مكانة أمريكا يمكن لها أن تعود، بل ستعود في النهاية بفعل قدراتنا على إحداث تغيرات جوهرية". هذا المقال هو واحد من المقالات والدراسات العديدة التي تحمل ذات التنبؤ و نفس التوقع بتراجع أو نهاية حقبة الهيمنة الأمريكية.
وبغض النظر عما يراه فوكوياما، فقد ظلت التوقعات والتنبؤات حول الشكل الجديد للنظام العالمي القادم تتوالى مع بروز مؤشرات تراجع الأداء السياسي والاقتصادي والعسكري للولايات المتحدة الأمريكية (قطب العالم الأوحد). فهناك من يصر على نبوءة بقا الشكل الحالي للنظام العالمي بالولايات المتحدة كقوة العالم المهيمنة لان ما تمر به من أزمات مالية واقتصادية أو مواقف عسكرية ما هي إلا سحابة صيف سرعان ما ستنجلي بفعل الإمكانات الفظيعة لهذا العملاق العالمي. وعلى الطرف الأخر، هناك من تنبأ بأفول الإمبراطور الأمريكي ليحل محلة إمبراطور أخر قد يكون الصين بسورة العظيم أو الاتحاد الأوروبي أو عودة روسيا.
نحن هنا نرى أن العالم يعيش مرحلة العد التنازلي لأفول الإمبراطور الأمريكي وملامح التراجع واضحة وجلية ومهما كانت المعالجات وعمليات الترميم أو التجميل أو التدليك فلم يعد هناك ما يمكن أن يبقيه متربعاً على عرش عالمنا الكبير. غير أننا لا نقصد بأفول الإمبراطور الأمريكي نهاية الدور الأمريكي على الساحة الدولية بل نعني تراجع دور الهيمنة ليتحول إلى قوة دولية شريكة شأنه شأن فرنسا أو بريطانيا، وسنبدأ هنا باستعراض الإخفاقات والصعوبات والتحديات التي تواجه الولايات المتحدة والتي ستسحب منها بطاقة القوة المهيمنة على العالم، وفي المقال القادم سنقدم رسماً تقريبياً لشكل النظام العالمي البديل.
مؤشرات تراجع الهيمنة الأمريكية كثيرة وعلى كافة الجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية. فعلى الصعيد الاقتصادي، تعاني الولايات المتحدة من عجز متصاعد في الميزان التجاري بلغ العام الماضي 2007 أكثر من 800 مليار دولار أمريكي، والمتابع لهذه الأرقام سيجد أنها ليست وليدة اللحظة أو وليدة السنوات الأخيرة بل على العكس من ذلك، فهي تراكمية ترجع بداياتها إلى أكثر من ربع قرن أي العام 1982 حين قدر العجز بـ 151 مليار دولار. ومنذ ذلك العام أخذ ذلك الورم يكبر ويستشري ليصل إلى ما هو عليه اليوم. ولكن السؤال هو: ما تأثير العجز في الميزان التجاري على الاقتصاد الأمريكي؟ الجواب هو أن العجز في الميزان التجاري يعني أن القيمة الإجمالية لواردات الولايات المتحدة تفوق بشكل كبير صادراتها وبالتالي فقد ترتب على ذلك عجز موازي في الموازنة بلغ في العام الحالي ما يقارب نصف تريليون دولار، ويقدر أن يصل في العام القادم 2009 التريليون، فضلاً عن تراكم في المديونية الخارجية بلغت 3.5 تريليون دولار وتراجع في حجم المدخرات.
ولكن السؤال الذي بات يتكرر : ما هي أسباب هذا الخلل في الميزان التجاري الأمريكي، وماذا فعل القاعدين على كراسي البيت الأبيض للحد منه طوال هذه المدة؟ الأسباب كثيرة في مقدمتها قوة سعر صرف الدولار الأمريكي مقابل العملات الأخرى لاسيما اليوان الصيني، فقد أدى ذلك مع انخفاض تكلفة الإنتاج القائم على رخص العمالة على جعل المنتج الصيني أكثر منافسة وأقل سعراً أمام المستهلك الأمريكي الذي فضل شراء ذلك المنتج على المنتج الأمريكي الأغلى منه سعراً، وكذلك بالنسبة للمنتج الياباني أو الكوري. ولذلك نجد ان العجز الأمريكي يذهب إلى أرصدة الدول الأسيوية وعلى رأسها الصين العظيم. من الأسباب الأخرى ما يتعلق بانخفاض مدخرات المواطن الأمريكي الناجم عن غلاء العقارات، والارتفاع التدريجي في أسعار النفط، والتورط في حملات عسكرية أو حروب بدأت بانتهاء الحرب الباردة والدخول في حرب الخليج الثانية ومن ثم غزو أفغانستان والعراق والحرب ضد الإرهاب.
ومع ذلك ظل الساسة و الاقتصاديون الأمريكان يرددون أن الحل في تقليص العجز في الميزان التجاري وتحويله إلى فائض يكمن في رفع قيمة الصرف لعملات الدول التي تغرق منتجاتها الأسواق الأمريكية وخاصة اليوان الصيني وهو ما ظهر في تصريحاتهم ودعواتهم المتكررة للصين بالسماح لعملتها بالارتفاع، وظلوا يراهنون أيضاً على حساباتهم أنه على المدى البعيد سيتقلص العجز وقد يتحول إلى فائض بفعل تراجع قيمة الدولار الذي سيجعل من المنتجات الأمريكية أكثر منافسة في السعر. الصين من جانبها لم تستجب للنداءات الأمريكية بالسماح لليوان الصيني بالارتفاع مقابل العملات الأخرى رغم أنه في قوانين الاقتصاد كلما كانت صادرت الدولة أكثر كلما نجم عنه زيادة في الطلب على العملة المحلية مما يسهم في رفع قيمتها أمام العملات الأخرى، وللحد من ذلك فقد لجأت الصين من خلال بنكها الوطني لضخ المليارات من عملتها في الأسواق مما حال دون ارتفاع سعر اليوان الصيني مقابل الدولار الأمريكي وبالتالي ظلت المنتجات الصينية رغم جودتها أرخص من مثيلتها الأمريكية داخل السوق الأمريكية.
الموضوع الاقتصادي الأخر هو أزمة الرهن العقاري وما آلت إليه من انهيار للمصارف المالية الأمريكية أعقبها أزمة مالية عالمية. فقد أدى الازدهار الكبير لسوق العقارات بين عامي 2001 و2006 إلى تشجيع البنوك وشركات الإقراض على تقديم قروض عالية المخاطر مقابل سعر فائدة أعلا، وظهرت بوادر الأزمة بداية عام 2007 مع تزايد حالات عدم القدرة على الدفع وزيادة ظاهرة استيلاء المقرضين على العقارات. وانفجرت الأزمة بإعلان إفلاس بنك ليمان براذرز رابع أكبر بنك استثماري في الولايات المتحدة في الـ 14 من سبتمبر الماضي، ولذلك سارعت الولايات المتحدة للتدخل بغية الحد من إفلاس بقية المصارف من خلال إقرار خطة الإنقاذ المقدرة بـ 700 مليار دولار أمريكي وتبعتها الدول الأوروبية واليابان بإجراءات مشابهه، ورغم ذلك لم تعد الثقة إلى السوق، فعبر القادة الأمريكان وأولهم السيد بوش أن الخطة لن تأتي بثمارها على المدى القريب.
وحقيقة القول أن النظام المصرفي الأمريكي قائم على الإقراض وغياب الثقة في هذا النشاط لن يعيد لذلك النظام قوته، أضف إلى ذلك أن عملية إصلاح وإعادة بناء النظام المالي العالمي بحاجة إلى وقت أطول، بما يعني أن احد أعمدة الاقتصاد الأمريكي قد أصيب بعاهة خطيرة ستنتقل أثارها إلى بقية قطاعاته وقد لوحظ بعض من ذلك في انكماش استهلاك الفرد الأمريكي وتراجع الطلب على النفط بما يعني تراجع في الإنتاج، وبذلك قد يصدق ما عبر عنه الاقتصادي الأمريكي جوزيف ستيغلتز الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد حين شبه خطة الإنقاذ بعملية نقل دم إلى شخص يعاني من نزيف داخلي.
وفي الشأن الاقتصادي أيضاً، ارتفعت معدلات البطالة في الولايات المتحدة وهذا الارتفاع قد سبق الأزمة المالية مع إغلاق الكثير من المؤسسات والمصانع أبوابها ونقل عمليات إنتاجها إلى دول كالمكسيك والصين بحثاً عن العمالة الرخيصة التي تقلل من تكاليف الإنتاج، ويستمر طابور الملتحقين بمعسكر البطالة بالامتداد أكثر فأكثر مع استفحال الأزمة المالية ومع ملاحقة المستثمر لأحد عوامل الإنتاج الثلاثة وهو اليد العاملة المدربة والرخيصة، وبالتالي فذلك يمثل واحداً من أكبر التحديات التي تواجه الاقتصاد الأمريكي. وخلاصة القول أن تلك الأورام الاقتصادية الخبيثة التي يعاني منها أكبر اقتصادات العالم ستلقي بآثارها السلبية على أدوات الهيمنة الأمريكية وستحد من قوة تلك الأدوات السياسية والاقتصادية والعسكرية.
على الصعيد السياسي، ظلت الولايات المتحدة تتميز عن غيرها من القوى المنافسة والمرشحة للبروز في المسرح الدولي، وخاصة الصين، برعاية القيم الإنسانية التي تروج لها وأبرزها الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان. وظل الكثيرون ممن يرفضون نبوءة نهاية العهد الأمريكي وإحلال إمبراطور أخر لعله الصين يتساءلون: لقد جاءت الولايات المتحدة للعالم بقيم عظيمة كالديمقراطية وحقوق الإنسان، فما هي القيم التي سيأتي بها الآخرون؟! ورغم شكوك الكثيرين أن واشنطن توظف هذه القيم كأدوات سياسية لبسط نفوذها وهيمنتها على العالم، فقد ظلت هذه القيم محل إعجاب وتقدير الكثيرين. ولكن مع إيصال الديمقراطية لبعض الأحزاب أو الجماعات او الأفراد إلى السلطة كمنظمة حماس في فلسطين و حزب الله في لبنان وتشافيز في فنزويلا وموراليس في بوليفيا ورفائيل كوريا في الإكوادور والذين لا يروقون للبيت الأبيض بصقورها وحمائمها، تكشفت حقيقة تلك القيم حين أظهرت الولايات المتحدة معارضتها الشديدة لصعود مثل تلك الجماعات وأولئك الأفراد مما أظهر الديمقراطية كمجرد أداة سياسية للضغط على الدول وبالتالي قلل من حماسة أولئك المعجبين ونزع عن تلك القيم سحرها وبريقها.
كما فُضحت تلك القيم ،التي استمرت واشنطن بالترويج لها لعقود، باحتلال أمريكا للعراق تحت شعار نشر الديمقراطية والحرية وما نجم عنه من ذبح لحوالي مليون إنسان وتشريد لـ 4 مليون لاجئ، وما رافقها من ممارسات تعذيب وتشويه تجلت بصماتها في سجن أبو غريب. كما برز الوجه البشع لتلك القيم الأمريكية في معتقل جوانتانمو والسجون السرية في أوروبا الشرقية، وبذلك أصبح حديث الولايات المتحدة عن هذه القيم أو توجيه التهم لبعض الأنظمة بانتهاكات حقوق الإنسان خالي من المصداقية بل مجرد شعارات جوفا لا تسمن ولا تغن من جوع بعد أن فقدت ذالك الوقع الذي احتفظت به لسنوات بل ولعقود، وبالتالي لم يتبق لراعية الديمقراطية والقيم السياسية الرفيعة شيئاً من تلك القيم التي يمكن تقديمها للعالم اليوم.
من جانب أخر، فشلت واشنطن في كل محطاتها السياسية بدأً بحديقتها الجنوبية أمريكا اللاتينية ومروراً بـ "الشرق الأوسط الجديد" و القوقاز (الحرب الروسية الجورجية) والملف النووي الإيراني وانتهاءً بالملف النووي الكوري.
ففي أمريكا اللاتينية، لم تفلح الولايات المتحدة، رغم ما تفرضه من حضر اقتصادي، بالقضاء على ما تبق من ذكريات الشيوعية في كوبا (نظام كاسترو)، بل على العكس من ذلك فقد أدت سياساتها إلى اتساع دائرة المتعاطفين والناقمين وصعود أنظمة معادية لها ومساندة لنظام فيدل كاسترو. ففي فنزويلا جاء تشافيز المتحمس والرافض لسياسات أمريكا وفي الإكوادور سطع رفائيل كوريا وفي بوليفيا نشأ موراليس وفي نيكاراغوا لمع أورديغا وكذلك بالنسبة للولا البرازيل وحمامتي الأرجنتين وتشيلي جميعاً ممن لا يصغون لأوامر البيت الأبيض. وها هو كاسترو رغم علله وكبر سنه ربما قد أقسم أن لا يسمح بإطلاق أنفاسه الأخيرة إلا بعد أن يرى الهيمنة الأمريكية تطلق أنفاسها الأخيرة. وها هي موسكو التي أزعجت واشنطن بنصب صواريخها في كوبا في أوج الحرب الباردة تجرؤ اليوم على تنفيذ مناوراتها العسكرية مع الجيش الفينزويلي على بعد أميال من أسوار الإمبراطورية الأمريكية وذلك رداً على درع الصواريخ الأمريكي المزمع بناؤه على أسوار روسيا مديفيديف بوتن.
وفي الشرق الأوسط، فشلت أمريكا في العراق، وإن كانت قد حققت بعض النجاح في وضع يدها على ثالث احتياطي عالمي من النفط وأمنت إسرائيل من صواريخ صدام حسين، وأطلقت شرارة الصراع الطائفي السني الشيعي، فقد أخفقت في تأمين إسرائيل من صواريخ أحمدي نجاد، بل وقدمت العراق لإيران كهدية على طبق من ذهب، وفشلت في عزل سوريا أو الضغط عليها أو فصل ارتباطها بإيران، وفشلت حليفتها إسرائيل وسقطت أسطورة جيشها في حرب تموز 2006 أمام حزب الله، بل عززت من قوة حزب الله السياسية والعسكرية. كما شهدت عملية مخاض ولادة "الشرق الأوسط الجديد" الذي بشرت به الدكتورة كوندوليزا رايس إرهاصات أدت إلى وفاة الجنين قبل أن يرى النور، وأخفقت إدارة الرئيس بوش بإحلال عملية السلام بين العرب وإسرائيل التي وعد بها سادة البيت الأبيض المتلاحقين.
أما في ملف إيران النووي، فلم تفلح إدارة الرئيس بوش بإيقاف إيران عن تحقيق طموحاتها النووية، بل زادت من عناد وإصرار أحمدي نجاد رغم كل العقوبات الاقتصادية، المفروضة منها والمنتظرة، ورغم كل الحوافز التي يقدمها سولانا والغرب. وإذا كانت أمريكا قد أعطت الضوء الأخضر لإسرائيل بضرب المفاعل النووي العراقي تحت الإنشاء عام 1982 و إعطائه مره أخرى لضرب ما سمي بـ منشأة نووية سورية، فهل بمقدورها اليوم السماح لإسرائيل بضرب المنشآت النووية الإيرانية، رغم أن إيران ليست الصين أو روسيا لكنها ليست العراق أو سوريا؟!
ومن إيران إلى القوقاز، إذ ترك الإمبراطور الأمريكي حليفه الجو رجي ، الذي أعتز بولائه للغرب وحلم بدخوله الناتو، فريسة لجنازير ودبابات مديفيديف وبوتن التي لم ترحم ولم تأبه بتحذيرات الناتو، ولم يكن من الإمبراطور إلا أن يندد باستحيا ويحذر على خجل وهو ذاته من دك بطائراته قبل تسعة أعوام حصون بلجراد (حليف روسيا) دون العودة إلى مجلس الأمن الدولي ودون المبالاة بتحذيرات موسكو. ولم يكن بوسع الرئيس الجورجي الذي خاب ظنه بأصدقائه أو فشلت حساباته إلا أن يسحب أفراد قواته من العراق ليقول للأمريكان والغرب: " هل نزعت هيبتكم لتتركوني وحيداً؟!"
أما ما يتعلق بكوريا الشمالية، فلم نعد نسمع منذ العام 2006 عنتريات السيد بوش بتغير نظام كيم جونج إيل ولم يعد يطرح الخيار العسكري كوسيلة لحل البرنامج النووي لبيونج يانج، وعلى العكس من ذلك فقد انخرطت الولايات المتحدة في محادثات سداسية إلى جانب روسيا والصين واليابان والكوريتان كان من نتائجها التوصل إلى اتفاق فبراير 2007 يقضي بموافقة بيونج يانج على التخلي عن برنامجها النووي مقابل مساعدات أمريكية في مجال الطاقة إلا أنه لم يحدث حتى اليوم أي إنجاز واقعي يتعلق بتفكيك المفاعلات. وإن كانت بيونج يانج قد شرعت ببعض إجراءات التفكيك الشكلية فيبدو أن السيد كيم جونج إيل لا يزال يراوغ لكسب المزيد من الوقت لأنه على ما يبدو غير مقتنع بالتخلي عن برنامجه النووي الذي يمثل لنظامه أكسيجين الحياة.
وبرغم ذلك قد يقول قائل أن الخطوة الأمريكية بالتفاوض مع كوريا الشمالية لحل الملف النووي هو عمل إيجابي ومكسب للسياسة الأمريكية التي ليس من مصلحتها الدخول في حروب هي بغنى عنها، نعم قد يكون ذلك ولكن الواقع يقول أن وضع أمريكا الضعيف والمتراجع هو المحرك لموقف بيونج يانج المراوغ، والأغرب من ذلك هو ما جاء على لسان أحد أعضاء الوفد الأمريكي المفاوض في المحادثات السداسية في محاضرة ألقاها في جامعة فار إيست الكورية الجنوبية العام الماضي 2007 حين قال "أن الولايات المتحدة لم تعد اليوم قلقة من مسألة البرنامج النووي الكوري الشمالي بقدر ما تخشى من سقوط نظام كيم جونج إيل الذي قد يحول كوريا الشمالية إلى مقاطعة صينية". ويقصد بذلك دخول كوريا الشمالية تحت النفوذ الصيني كما هو الحال عليه في العراق التي أصبحت ساحة للنفوذ الإيراني بعد سقوط نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، فلعل ذلك هو المحرك الرئيسي للمرونة التي أبدتها الإدارة الأمريكية في التعامل مع ذلك الملف.
على الصعيد العسكري، تورطت الولايات المتحدة في ثلاثة حروب متزامنة، حرب في أفغانستان وحرب في العراق وحرب على الإرهاب، أثقلت كاهل ميزانيتها، ورغم إمكانياتها وترسانتها العسكرية وتقنيتها الخيالية أخفقت في الحروب الثلاثة جميعها، فكشف النقاب عن حقيقة آليتها العسكرية وهو أن القوة لا تفيد شيئاً في إستراتيجيتها الجديدة لفرض الهيمنة، بل جاء الأثر عكسياً بضياع هيبتها التي رسمت على مدى العقود الماضية وخلال الحرب الباردة وما بعدها. ففي أفغانستان شنت حربها الأولى وبدعم حلفائها الغربيين وبدت في بداياتها منتصرة بطرد طالبان والقاعدة ولكن سرعان ما عادت طالبان من جديد لتسقط مدن أفغانستان الجنوبية الواحدة تلو الأخرى تحت سيطرتها، وبعد سبعة أعوام من بداية تلك الحرب جاءت تصريحات قادة قوات الناتو أن المعركة في أفغانستان لا يمكن حسمها بالقوة العسكرية، بل عن طريق المفاوضات مع طالبان. فما هي مكاسب تلك الحرب إذن ؟! أهي طرد طالبان التي عادت من جديد؟!، أم زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن الذي لا يزال طليقاً رغم وعود السيد بوش بالقبض عليه؟!، أم القدرة على شن الحرب والعجز عن حسمها؟!
وكذلك نتساءل عن غزو العراق، حين شنت الحرب باسم القضاء على أسلحة الدمار الشامل ومن ثم باسم نشر الحرية فبدت أسلحة الدمار الشامل كذبة كبيرة وظهرت الحرية المزعومة في أبشع صورها وبدت آلة الحرب الأمريكية ضعيفة أمام ضربات المقاومة العراقية وتكبدت الخزانة الأمريكية ما يفوق التريليون دولار فضلاً عن الخسائر البشرية وانهيار الروح المعنوية. كما ظهرت الولايات المتحدة أسيرة وعاجزة عن التعامل مع ما أسمي بالتحديات الأخرى في إيران و سوريا وغيرها.
وفي حربها على الإرهاب، لم تفلح إدارة السيد بوش بالحد من مخاطره، بل دخلت في معركة طويلة ومكلفة لا يعلم أحد متى وكيف ستكون نهايتها. و في لبنان خسرت حرب الوكالة التي شنتها إسرائيل على لبنان صيف 2006 ولم تجدي قنابلها العنقودية التي أمطر بها الطيران الإسرائيلي جنوب لبنان في كبح جماح المقاومة اللبنانية. وبفعل تلك الحروب المتداخلة المتلاحقة الناجمة عن سياسات خاطئة وقرارات غير محسوبة أضاعت الولايات المتحدة هيبتها وفقدت فاعلية عسكرها وجلبت على نفسها وناسها لعنات لن تنتهي بنهاية حروبها، والقادم الأسوأ هو تأثر وضعها العسكري بأزماتها المالية والاقتصادية إذ ستتراجع النفقات العسكرية وسينكمش دورها وحجم وجودها وانتشارها وراء البحار وبذلك سيفقد قطب العالم الأوحد قوة وفاعلية أهم دعائم ديمومته وبقائه .
على الصعيد العلمي والاجتماعي، تشير بعض الدراسات ان العملاق الأمريكي يعاني من انخفاض سرعة الإنتاجية عنها في اليابان أو في أوروبا، وتردي مستويات الخدمات الصحية والتعليمية، كما يعاني من تراجع ملحوظ، مقارنة بدول أخرى، في مجال التعليم والبحث العلمي، إذ انحصرت نسبة العلميين والفنيين في الولايات المتحدة في 55 لكل ألف من السكان مقابل 129 في السويد وهولندا و257 في كندا و317 في اليابان. كما تشير الإحصاءات إلى تراجع الطلاب الأميركيين أمام الطلاب الأجانب لاسيما في مجال الرياضيات والكيمياء وعلوم الحاسب الآلي، وتراجع ما قدمته الولايات المتحدة من معارف وتكنولوجيا جديدة في العالم من 75% عام 1945 إلى 36% عام 1996، كما تعاني من تزايد حالات الإقصاء والتهميش في أوساط الفئات الفقيرة من السود والاسبان .
وبعد هذا الاستعراض لكل هذه المواقف والحقائق نقول أن كل ما ذكر أنفاً من مواقف سياسية وصعوبات اقتصادية وإخفاقات عسكرية وتحديات اجتماعية وانكماش في الأدوار العلمية ما هي إلا مؤشر على تراجع حقبة هيمنة القطب الواحد الذي يعيش العالم مرحلة العد التنازلي لأفوله وبزوغ ملامح النظام العالمي البديل، ورغم كل هذه الحقائق لا يزال هناك من يرفض قراءة الواقع ويصر على أن الولايات المتحدة ستخرج من أزماتها منتصرة قوية كما خرجت من الكساد العظيم وحرب فيتنام وغيرها من الأزمات، إلا انه ينسى أن ظروف اليوم ليست بظروف الأمس ولاعبي اليوم ليس بلاعبي الأمس وأزمة اليوم ليست بالطارئة، بل تراكمية بفعل أخطاء سياسية وهفوات اقتصادية وحماقات عسكرية وظروف دولية متغيرة جاءت بلاعبين سياسيين واقتصاديين جدد ليسوا على استعداد للتنازل عن حقهم ودورهم في حمل الراية أو المشاركة في حملها كحد أدنى.