|
جاء في كتاب «المستطرف» للأبشيهي أن رجلين اصطحبا في طريق، فقال أحدهما للآخر تعال نتمنى على الله، فإن الطريق تقطع بالحديث، فقال أحدهما: أنا أتمنى قطائع غنم أنتفع بلبنها ولحمها وصوفها. وقال الآخر: أنا أتمنى قطائع ذئاب أرسلها على غنمك حتى لا تترك منها شيئا.
هكذا الحماقة تصرف صاحبها عن مواطن النفع، بالنظر في كيفية إلحاق الضرر بالآخرين، ولذا قال بعض الحكماء: «لا أعرف شيئًا أشد على الأحمق من تركه ما لا يعنيه، واشتغاله بما يعنيه».
لا تزال سلطة محمد بن زايد لاهية عما ينفع الشعب الإماراتي، بانشغالها بتدبير المكائد متعددة الأشكال ضد الحكومة التركية، فبعدما فشلت في الترويج لمظاهرات حديقة جيزي عام 2013 على أنه ربيع تركي ضد حكومة أردوغان، وبعد تورطها في دعم وتمويل منظمة «بي كا كا» الإرهابية ضد تركيا، وبعد إخفاقها في دعم الكيان الموازي بزعامة فتح الله كولن عبر المحاولة الانقلابية في 2016، انتقل ابن زايد إلى معركة الدراما مع تركيا.
يتزامن مع توقيت نشر هذه السطور، انطلاق أولى حلقات المسلسل الإماراتي «ممالك النار» الذي يروج له على أنه العمل الأضخم في الدراما العربية بتكلفة 40 مليون دولار، ويتعرض لحقبة دخول العثمانيين مصر بقيادة السلطان سليم الأول، وصراعه مع سلطان المماليك طومان باي.
الطبيعي أن يكون تقييم المسلسل بعد الاستماع إلى حلقاته، لكن كما يقال في المثل «المكتوب يقرأ من عنوانه»، فقد كفانا الإعلان الترويجي للمسلسل مؤنة الاستماع إلى حلقاته، إذ يسهل من خلاله إدراك أننا بصدد حملة إماراتية ضد تاريخ الأتراك في قالب درامي. «قانون دموي حكم إمبراطورية، فأصبح لعنة تطاردهم» ذلك هو شعار المسلسل، الذي يطالعه المشاهد من خلال الإعلان الترويجي، والذي يمثل بطبيعة الحال الفكرة التي بُني عليها السياق الدرامي، في إشارة واضحة لإلحاق تهمة الدموية بالتاريخ العثماني.
ثم عبارة لرجل يبدو أنه السلطان بايزيد الثاني، والد سليم الأول، يقول فيها «السلطان أهم من الإنسان» في إشارة أخرى إلى تجرد الحكم العثماني من الجانب الإنساني وتجاهل الحقوق البشرية. ثم تجد في البرومو توجيهًا من سلطان المماليك قنصوة الغوري لأمراء، بالاتحاد والتحالف على كلمة سواء ضد أفاعيل ابن عثمان، يعني سليم الأول، بما يوحي لنا بأن شخصية ذلك السلطان العثماني سوف يتم الطعن فيها باستفاضة في ذلك المسلسل.
ويؤيد ذلك مشهدٌ ظهرت فيه امرأة عجوز تخاطب السلطان سليم الأول بقولها «تسرق الأرض والحكم، والآن تغتصب النسب والدين؟».
وفي المقابل يظهر في الإعلان سلطان المماليك في مصر طومان باي، الذي يجسد شخصيته الفنان المصري خالد النبوي بطل المسلسل، في قالب الخير المحض، حيث تهتف باسمه الجماهير حبًا، دلالة على اتباعه العدل بين الرعية، وتظهر سيماء الإيمان عليه، وهو يحث جند مصر على الصبر والرباط. ويؤيد نظرتي للمسلسل من خلال البرومو، ما نشره المنتج الإماراتي ياسر حارب مؤسس الشركة المنتجة للمسلسل «جينوميديا»، على تويتر حيث قال: فخور بالإعلان عن مسلسل «ممالك النار» الذي نأمل في جينوميديا أن نبدأ به مرحلة جديدة في الدراما العربية. وفخور أيضا أن يبدأ عرضه على شبكة «إم بي سي». السلطان المملوكي طومان باي في القاهرة، في مواجهة المحتل العثماني سليم الأول، فيصف دخول العثمانيين مصر بأنه احتلال، علمًا بأن المماليك الذين حكموا مصر لم يكونوا كذلك مصريين، بل كانوا من أصول تركية، وثبت في التاريخ أنه في فترة ما قبل دخول العثمانيين مصر كانت البلاد في عهد المماليك يعمها الفوضى والظلم، وتسلُّط أمراء وقادة المماليك على رقاب الناس، وفرضهم الضرائب الباهظة، إلى جانب قيامهم بالسلب والنهب لما في أيدي الناس، ما ألجأ بعض العلماء إلى مراسلة السلطان العثماني لتخليصهم من بطش المماليك.
والمؤرخ ابن إياس نفسه، الذي أرخ لتلك الفترة وكان من المماليك، عزا هزيمتهم في موقعة «مرج دابق» أمام سليم الأول للظلم الذي أحدثوه في البلاد، وصرح بأن المماليك أعملوا القتل في العربان الذي ثاروا عليهم، وعلقوا رؤوسهم على صدور نسائهم في شوارع القاهرة. المسلسل أنتجته الإمارات، ويعرض على «إم بي سي» السعودية، ويروج له الإعلام المصري على أنه حدث هائل منتظر، ليلتقي هذا الثالوث في حلقة جديدة من حلقات النيل من الأتراك، إذ أن هناك اهتماما غير عادي في هذه الدول بعرض المسلسل.
هم يرون أنه مواجهة للقوة الناعمة لأردوغان، الذي أولى الدراما التاريخية أهمية بالغة، لدرجة حضوره مواقع تصوير مسلسل «أرطغرل»، ويطعنون في هذا المسلسل، باعتباره تزييفا للحقائق التاريخية لإضفاء صبغة البطولة على شخصيات عثمانية. لكن الأتراك لم يخدعوا الجماهير، وقالوا إن الشخصية لم تتحدث عنها المراجع التاريخية، إلا في ثلاث أو أربع صفحات، فبنى فريق العمل على الحقائق سياقا دراميا طويلا، ولكنني أود القول، إن كانت الإمارات وحليفاتها تريد التنافس مع الدراما التركية، فلماذا لا يكون عن طريق مسلسلات تمجد في رموز العرب، بدلا من الانشغال بالدراما التركية والرموز التاريخية التي تتناولها؟
السؤال الأهم هنا: لماذا لا تنتج الإمارات أعمالًا درامية عن الدولة الإيرانية الفارسية التي تحتل الجزر الإماراتية، بدلا من الأعمال التي تنال من تاريخ الأتراك؟ أو لماذا لا تنتج أعمالا عن الانتهاكات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين؟
لماذا تنفخ الإمارات وحليفاتها في نار الشقاق بين العرب والأتراك على قاعدة القوميات، بعد أن كادت هذه النعرة أن تختفي؟ ولمصلحة من؟
العرب تربطهم بالأتراك روابط عدة، أبرزها الهوية الإسلامية التي كانت هي الراية الجامعة لهم على مرّ قرون، وقد ذكرت كتب التاريخ كيف كان التعامل بينهما على أساس الدين، يظهر ذلك، على سبيل المثال، في الرسائل المتبادلة بين محمد الفاتح بعد فتح القسطنطينية مع ملوك وسلاطين العرب، واحتفال الدول العربية بهذا الفتح. كذلك العوامل الجغرافية والتاريخية والثقافية تفرض التقارب بين الطرفين، وقد اعتبر البروفيسور نجم الدين أربكان الدول العربية مجالا حيويا لتركيا، بعد أن عزلها أتاتورك وأتباعه عن العالم العربي، ودفعها باتجاه الغرب، لكن سرعان ما تم الانقلاب عليه من المؤسسة العسكرية الكمالية، فأعادت حكومة العدالة والتنمية الوضع مرة أخرى إلى أن يكون العرب هم المجال الحيوي لتركيا، لكن الدول العربية الغارقة حتى النخاع في التبعية لأمريكا تأبى إلا الشقاق.
الأولى بالإمارات وحليفاتها أن تخرج من العباءة الأمريكية وتتجه لبناء تحالفات قوية مع دول إسلامية صاعدة قوية مثل تركيا وماليزيا وباكستان، بدلا من النفخ في نيران العداوة مع الأتراك، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
#كاتبة أردنية
في الإثنين 18 نوفمبر-تشرين الثاني 2019 06:53:55 م