دروس وحكايات من فلسطين
بقلم/ د. محمد جميح
نشر منذ: 6 سنوات و 5 أشهر و 28 يوماً
الجمعة 18 مايو 2018 11:01 ص
 

كان يوم الثلاثاء الموافق 14/5/2018 يوماً مليئاً بالفانتازيا، كانت شاشة كونية كبرى تبث في ركن منها حفلاً فرائحياً في القدس، التي عمدها دونالد ترامب عاصمة أبدية لإسرائيل، وكانت الشاشة نفسها تبث في ركن آخر منها ألحاناً جنائزية تعزف الموت في غزة.
سيدة فلسطينية تبث تسجيلاً لآيات من القرآن الكريم بصوت مرتفع، ليغطي على ترنيمات «حفلة ديفيد فريدمان»، في القدس، أصوات المدافع الرشاشة منطلقة مع زخات الرصاص الذي تسابق إلى أجساد الغزيين، تمتزج مع صلوات قسيسين وربانيين صلوا لحياة «الرئيس العظيم»، دونالد ترامب.
جون سيليفان نائب وزير الخارجية الأمريكي لم تختلف لغته عن لغة رجال الدين هناك، عندما قال إن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس سيجعل السلام يحل في المدينة، «العاصمة التي بناها الشعب اليهودي في الأزمنة السحيقة»، حسب أخصائي التاريخ دونالد ترامب، والتي «غنينا لها لمدة ثلاثة آلاف سنة»، كما قال رئيس إسرائيل، رؤوفين ريفلين، الذي تعهد بحماية «مدينة السلام»، فيما كان جنوده يقتلون قرابة ستين فلسطينياً في غزة، على ألحان المغنية الإسرائيلية المهاجرة من إثيوبيا خاكيد يوسف، التي غنت «هلولويا»، قبل أن تقوم «الجميلة إيفانكا» بإزاحة الستار عن مبنى السفارة، قبل أن يهتف بنيامين نتنياهو منتشياً في الحفل: «جبل الهيكل (المسجد الأقصى) في أيدينا»، فيما شكر القس الأمريكي جون هيغي رئيس الكنيسة المعمدانية في تكساس «الرب على أن منحنا إسرائيل»، ووقف بالقرب فلسطيني رافعاً علم فلسطين، في دراما مستمرة، لا يعدو افتتاح السفارة معها إلا أن يكون السطر الأول من إلياذة مقبلة.
لكن دعونا نقول إن الشاشات غالباً ما تنقل المشاهد الكلية لغرض التأثير في المشاهدين، لكننا في غمرة هجوم المشهد الطاغي على عيوننا وقلوبنا، يجب ألا نترك التأمل في الخيوط الدقيقة للنسيج والصور المكونة للمشهد. إن المشهدين اللذين بثتهما الشاشات يوم الثلاثاء ما كان لهما أن يكونا، لولا مشاهد أخرى حضرت في الشاشة عندما غيرنا نوعية البث كي لا نشاهدها. إن انقسام المشهد الفلسطيني يوم الثلاثاء إلى ثنائيتي: القدس/غزة ليس وليد اللحظة، هذا المشهد هو وليد عدد من المشاهد التي انقسمت فيها القضية الفلسطينية بين رام الله وغزة، بين فتح وحماس، في تكريس واضح لسياسة إنتاج شعبين فلسطينيين: واحد في غزة والثاني في رام الله. يكفي أن نعرف أن كاتباً إسرائيلياً اقترح مع استمرار الحكومة الفلسطينية في قطع رواتب موظفي غزة، أن تقتطع إسرائيل مرتباتهم من أموال السلطة لدى إسرائيل لتسليمها لموظفي القطاع مباشرة! وهكذا تظهر إسرائيل في ثوب إنساني يتعاطى مع مأساة غزة، التي كانت في الأصل منتجاً إسرائيلياً خالصاً، في ما تظهر السلطة في صورة من يحاصر القطاع، ويجوع أهله.
الحقيقة، أنه لا يمكن قراءة الكوميديا الإسرائيلية – الأمريكية التي عرضت في القدس يوم الثلاثاء بعيداً عن التراجيديا التي تعرض كل لحظة على شاشة عربية مجروحة تمتد من المحيط إلى الخليج. ما كان لمشهد نقل السفارة الأمريكية في القدس أن يتم، لولا مشاهد سابقة مهدت له على مدى عشرات السنين. إن ما حدث في القدس كان النتيجة الطبيعية لأحداث أيلول الأسود، وحروب لبنان، والعشرية السوداء في الجزائر، مروراً بمجازر العراق، وحروب السودان، ومآلات الربيع العربي، التي انتهت بسوريا إلى أكوام من دموع ودماء، وانتهت بليبيا إلى طرابلس وبنغازي، وباليمن إلى ثنائيتي صنعاء وعدن، وانتهت بإيران إلى أن تصبح إسرائيل ثانية في احتلال البلدان العربية، وتشريد شعوبها.
كل ذلك بدون العودة إلى مضامين النكبة والنكسة التي مارسنا بمصطلحيهما ضرباً من التخدير النفسي الموضعي المخاتل، الذي تفادينا به إطلاق تسمية هزيمتين تاريخيتين كبيرتين عليهما، بعد أن نتج عن الأولى قيام إسرائيل، وعن الثانية توسع حدودها.
دعونا نكون أكثر مكاشفة لنقول إن إسرائيل على إجرامها لم تفعل بِنَا ما فعلناه نحن بأنفسنا، وإن ضحايا العرب على يد اسرائيل لا يساوون شيئاً مقابل ضحاياهم، على يد العرب أنفسهم، وإن محاولة إنكار هذه الحقيقة، وإشهار سيف تلميع إسرائيل، وعقدة جلد الذات، في وجه من يريد التنبيه عليها، كل ذلك لا يعدو كونه ضرباً من تصرفات ذلك الحيوان الضخم ذي الرأس الصغير الذي يحاول عند الخطر أن يدس رأسه في الرمال. إن العرب لا يمكن أن ينتصروا على إسرائيل عسكرياً، إلا إذا انتصروا عليها أخلاقياً، ولا يمكن أن ينتصروا عليها أخلاقياً إلا إذا أدخلوا السجن فاسديهم ومجرميهم، حتى لو كانوا زعماءهم، وأخرجوا منه مناضليهم وشرفاءهم حتى ولو كانوا خصوماً سياسيين.
قد يقول قائل إن إسرائيل لا تتعامل مع الفلسطينيين بالمعايير الأخلاقية ذاتها، وهذا صحيح، لكننا نطالب أن تتعامل الحكومات العربية مع شعوبها تعامل حكومة إسرائيل مع شعبها هي، وعندها يمكن لتلك الشعوب الحرة أن تدفع الاحتلال عن أراضيها المحتلة من قبل إسرائيل، أو غيرها.
نعود لنقول إن إسرائيل دولة احتلال، لكنه لا يمكن مقارنة تعاملها مع شعبها بتعامل الأنظمة العربية مع شعوبها، ولا يمكن أن نقارن مكانة المواطن الإسرائيلي أمام حكومته، بوضع المواطن العربي أمام أي من حكومات ما بين المائين، وإنه ما لم نتفوق على إسرائيل في ميادين الحقوق والحريات، فلن نتفوق عليها في مجال البورصات والصواريخ. هذه هي الحقيقة التي على العرب أن يواجهوا أنفسهم بها، والتي لن ينفعنا الهروب منها، لأننا لن نزداد بالهروب إلا مزيداً من خداع النفس، ودس رأس ذلك الحيوان الضخم في الرمال.
إن السفارة الأمريكية لم تنقل إلى القدس يوم 14 مايو 2018، ولكنها نقلت إليها يوم احتلال إسرائيل للقدس في يونيو عام 1967، أو ربما في يوم من عام 1948، أو قبل ذلك بكثير.
لقد جاء نقل السفارة في وقت انشغل فيه كل شعب عربي بجراحه الوطنية، وجاء وقد جعلت إيران في كل مدينة عربية «نكبة فلسطينية» باسم فلسطين، و»قدساً محتلة» باسم القدس، ودمرت «قوة القدس» الإيرانية حلب وحمص والموصل، وجاء وقد تقدمت تلك القوة الإقليمية رافعة «قميص فلسطين» من أجل توسعها الإمبراطوري، مستغلة ضعف النظام الرسمي العربي، الأمر الذي جنى على نقاء القضية الفلسطينية، لأنه لا شيء أكثر ضرراً على القضايا العادلة من أن يتبناها الظالمون.
وقد جاء نقل السفارة الفلسطينية في وقت يجلس فيه الفلسطيني مع الاحتلال الإسرائيلي، للتنسيق الأمني، لكنه لا يجلس مع شقيقه الفلسطيني للتنسيق لفعل المقاومة ضد هذا الاحتلال، وجاء نقل السفارة في وقت اختصرت القضية الفلسطينية إلى اتصالات لتزويد غزة بالوقود، أو لقاءات للتمهيد للمصالحة بين فتح وحماس، أو اجتماعات هنا وهناك لمنع توسع الاستيطان! وجاء نقل السفارة بعد أن تدرجنا في خطابنا الإعلامي بين «الكيان الصهيوني» و»الاحتلال الإسرائيلي» و»دويلة إسرائيل»، إلى أن وصلنا إلى «دولة إسرائيل» التي عرض العرب عليها تطبيعاً كاملاً مقابل «دويلة فلسطينية» على 22% فقط من أراضي 1967.
دعونا نقول إن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، مخالف للقوانين والقرارات الدولية، وإنه خطوة نزقة لن تغير من حقيقة كون القدس عاصمة فلسطين، لكن تلك الخطوة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، ما دمنا لا نتعلم من دروس الأيام.
كان غوته يقول: إن الذي لا يتعلم من دروس الثلاثة آلاف سنة الأخيرة، يبقى في العتمة. أما العرب فيسبحون في بحر الظلمات لأنهم نسوا درس الثلاثين سنة الأخيرة، كي لا أقول دروس سبعين عاماً منذ 1948.
وفيما كانت غزة تبكي دماً يوم الثلاثاء الماضي، عادت المهاجرة الإثيوبية خاكيد لتغني، في نهاية حفلة افتتاح السفارة «ليحل السلام علينا»، ولاحت لوحة كتب عليها «ليبارك الرب دونالد ترامب»، وردد الجميع «هلولويا»، قبل أن يشير كاتب يهودي إلى أن الإسرائيليين-كذلك-لم يفهموا دروس الثلاثة آلاف سنة الأخيرة.