أردت لتعز ان تلهب الأيادي بالتصفيق، فصفق محافظها الباب في وجهي!
بقلم/ عبدالله عبدالكريم فارس
نشر منذ: 12 سنة و 5 أشهر و 30 يوماً
الثلاثاء 15 مايو 2012 12:12 ص

من حيث المبدأ لا يوجد نجاح دون أخطاء، لذلك لا تتردد المجتمعات الناضجة في الإعتراف بالأخطاء وبالفشل. ويبدو أني ممن استطاعوا القفز فوق حاجز العُقد الرابضة فوق صدور مجتمعاتنا، والتي تنظر إلى النكسات على أنها عار يجب أن يطمس ويخفى أو عيباً يجب أن يوارى.

صارت عندي قناعة ومناعة أنا راض عنهما تماماً، تؤسسان على عدم إخفاء لحظات الإنتكاسات والإنكسار والآلام. وفي سبيل التصحيح، أصبحت اُصر على أنها لا بد أن تُشهر وتكشف كحق عام وتجارب إنسانية مشاعة يستفيد منها أولئك الذين لاتزال على عيونهم غشاوة.

ما لا يفهمه المسؤولين في اليمن من سيرة الكبار، عرباً وغير عرب، أن صناعة الإنجاز كالعلوم، كلما أبحرت فيها أكثر كلما ابتعدت بك عن الشواطىء. ذلك ما يجعلك تغذ الخطى بحثاً عن الطريق الأقصر للوصول إلى الهدف. كما أن عليك وأنت في خضم المعاناة أن تتغير، فكل موجة تحمل معها درساً هو عنوان لإتجاه الرياح، فيه عبرة قد تحتاج لتغيير جوهري.

بالنسبة لي، تظاهرة تعز الأخيرة التي حققت صعود أحد أبناء أبرز أسمائها الأصيلين لمنصب المحافظ لأول مرة منذ عهود سحيقة، مثّلت عندي حدثاً حقيقياً لجس نبض الإرادة على مستوى الإبداع وصيرورة جعل مستقبل تعز ملتقى لإحتفاليات اللون والضوء والشكل والجوهر.لم انتظر، فثمة كنوز لدي اعمل عليها واُموّل تطويرها على نار هادئة منذ عقد من الزمن. ونظراً لإدراكي صعوبة تناولها تفصيلياً عن بُعد. قمت بسرعة لم اظن اني أمتلكها، وذلك بتكوين جرداً أرخبيلياً لعدد من الأفكار والمشاريع الحيوية القابلة للتطبيق الفوري. بعضها عبارة عن ملاحم إلهية مرئية متعددة الرؤى والمشارب، ولا ابالغ إن قلت أنها من أعاجيب العصر، وليس هناك من هو أحوج منها كاليمن بشكل عام.

عامل السباق مع الزمن عندي لا يستقيم وقيمة الوقت في اليمن. ذلك التوجس مبعثه شعور بأن القرارات الإستراتيجية لا تُتخذ وفق السرعة التي نرغب بها. هناك فعلاً بطء قيادي تقليدي يخذل حواسنا مباشرة بلا حياء. في الواقع لازلت أشعر أن ما يفعله المسؤولون عندنا لا يرتقي إلى مستوى المسؤولية.

طردت الأفكار المثبطة، لاعناً حدس الإنسان الذي أحياناً لا يقول سوى ما يشعره بالخذلان. لربما أنه من خلال عملي بالسلك الحكومي سابقاً، اصبحت أكثر إعتقاداً بأن هناك ميل أصولي عند السياسيين لأن يكونوا متجانسين، ولا مانع عندهم في أن تكون واحديتهم نوعاً من التحجر. - لكن كيف لظنوني نفي ما قرأته وسمعته من رجل تعز الجديد؟

- اُقسم بأنه قال بطريقة أو بأخرى: أنا رجل المرحلة… أعرف أنه قالها مبتورة. نعم هو لم يكمل جملته، لكنه قالها بتمكن. أعتقدت أنه لم يكن يقصد أنه متمكن من صنعة الكذب، والتي بالنسبة للبعض هي السياسة بعينها؟ - على بركة الله، هذه المرة يبدو ان لدينا رجلاً صادقاً.

إمتزاج شعوري بحس الرغبة الملحة للإعلان عن خبايا الذاكرة بكل محطاتها، وفي الحضور إلى تعز للتعبير عنها دفعني لكتابة رسالة شفافة لمحافظها الجديد عبر الصحافة والإنترنت علها تكون أوفر زمنياً من البريد الأسرع من الضوء. - هكذا أنا، دائماً لدي رغبة جامحة لأن أقوم بعمل شيء ما. لم أعد أسعى نحو شيء من منافع الدنيا التي نهلت منها أكثر مما أعتقد أنه نصيبي في هذه الحياة. اريد عمل شيئاً ملموساً يهب لمواطنتي قيمة معنوية على الأقل.

مرت الساعات والأيام، لا حس ولا خبر وسؤال يستحوذ عليّ بقوة، هل يُعقل أن يكون محافظ تعز بلا سكرتير يتابع ويلخص له؟ رجل الدولة الذي يعتقد أن كل ما ينشر في الصحافة هو نوع من يد العون له، وليس بحثاً عن مداخل للتقرب، بحسب قلم عارف أبو حاتم الذي استوقفتني صرخة له في مقال شهير: الأمور زادت سوءاً منذ كتبت المناشدة للمحافظ، وكأن قُطاع الطرق لديهم فريق إعلامي أفضل من الذي لدى المحافظ، لذلك زادوا وبالغوا في الخطيئة.!

مرة اُخرى، وجدت نفسي اُبرر له عدم الرد. لا بأس، اليمن تشهد تجاذبات حادة وصراعات تتجاوز أحياناً منطق الخلاف السياسي لتصبح نمطاً من المناكفة وبحثاً عن تسجيل نقاط ولو على حساب وحدة البلاد و على حساب المواطن. - اللعنة، لم يعد هناك خيط رفيع يفصل بين منطق المعارضة وبين منطق المغالبة والسعي إلى إفشال المسار.

- إذاً، فمن الطبيعي أن أقوم أنا بالمبادرة والتواصل مرة اُخرى فالرسالة المنشورة ربما لاتكفي. وفعلاً راسلت المحافظ مباشرة بعد أن أوسعت حائط صفحته الفيسبوكية ملصقات لا تخطئها عيون الأعمى.

أيام تمر، تلقيت خلالها مراسلات مختلفة أشكالها وألوانها من عدة مشارب، لكن لاشيء من صديقي المحافظ ! - كررت قائلاً لا يهم، السيف أصدق أنباءً من الكتب. قمت بحجز رحلة سفر إلى اليمن، فإنتظار الرد والسفر اصبحا سيان. بل ربما قرار السفر إلى اليمن سيعجل بأداء مناسك زيارة محافظها الجديد والعمرة في ربوع تعز سيمنحني مساحة عظيمة لإستعراض جمال الأفكار والمشاريع التي أحملها، وستمنح الرجل إشارة حول جدية الموضوع وفرصة إطلاعه المباشر عليها لتحليلها وتشريحها وتكريرها. لاشك أن مثله يبحث عن مشاريع وأفكار خلاقة تضع تعز في صدارة الدنيا وتضعه هو في المكان الذي يليق به. - لم اتوقع سوى أنه يتلهف للظفر بمثل هذه الجواهر النادرة والثمينة، فكيف بها إن أتت أيضاً هبة مجانية لوجه الله تعالى ووجه اليمن، فيشع ضوء الإنجاز ساطعاً من جبين تعز القادمة.

- كانت تغلبني الرؤية القائلة بأن تكريم مشاريعنا ومشاعرنا لا يتحقق إلاّ عندما نشرع في بلورتها وتحويلها إلى واقع نحسه ونلمسه ونستنشقه، وان الإحتفاظ بأحلامنا في أدراج صدورنا يجعلها تصدأ وتندثر. ولأن أعظم إستكشافات التاريخ احتاجت إلى خوض غمار رحلات سفاري وقطع للبراري. - بسم الله، إلى المطار. اذكر أنه قبل ساعات من صعود الطائرة وخزني إحساس ندم يحثني على عدم التطفل. أليس من اللائق ان اذهب في موعد. لم اتوانى، فبعثت له برسالة اخرى مؤدبة بأني انتظر منك موعداً عاجلاً، واريد عنوانك ورقم هاتفك، وأنا في طريقي إلى تعز. 

رحلتي تلك لم تكن ككل الرحلات، لأول مرة منذ سنوات طويلة القيت نظرات لهفى من نافذة الطائرة وقلبي يزداد عصفاً وخفوقاً موجعاً وأنا أودع أضوآء مدينة بلد الغربة التي احتضنتني كما لم يفعل مسقط رأسي. ورغم ذلك الألم لم أكن أتوقع في أسوأ كوابيسي بأن من أنا في سبيل نصرته هو من سيستخف وربما يتندر على دعوتي الصارخة من أقاصى الأرض من دون فحص أو تمحيص، ويقوم برميها في خانة صدق أو لا تصدق.

بعد رحلة يوم كامل فوق السحاب وفي مطار الترانزيت، هرعت بلهفة لفحص الردود لعل موعد المحافظ قد تم تحديده، وبذلك استطيع مغادرة اليمن في اقصر وقت ممكن. - وفعلاً كان هناك رد -، استبشرت به خيرا، لكني ما ان قرأته حتى ساورني شعور بأنه نوع من ترف وظائف الممارسة الفائضة الشبيهة ببرود التسجيل الصوتي الآلي. لا انكر بأن مشاعري صدمت، وإن بدون قصد منه، بدت رسالة برائحة إستعلاء رثة. - كان رداً باهتاً بلغة رخوة وكلمات موجهة لشخص نكرة ـ أي لا إسم له - ولم تتعدى هذه الجملة القصيرة: سلام عليكم أخي، يمكنكم التواصل معي عبر البريد الإلكتروني!

- وجدت نفسي اُردد بريد الكتروني؟!.. الله يسامحك ياشوقي. بريد الكتروني الآن وأنا في الجو وفي الطريق إليك خصيصاً. لم يكن هناك رقم هاتف كما طلبت منه، ليس هناك موعد، لا دعوة، لا شيء، مجرد اشارة بدائية خام للتواصل.

حدسي كان في محله، وتأكيداً على ذلك، حتى اليوم منذ أسابيع عدة، ثلاث رسائل ذهبت إليه - كما طلب هو - ولم اتلقى عليها رداً واحداً… لقد كانت رسالته بمثابة تحليل الحمض النووي الذي أكد نسب الأخ المحافظ لعهد إرث بائد ومراوغ بلا إلتباس أو نسبة خطأ... لا أعرف، هل يعتقد المحافظ الجديد أن من صولة دولة الأغنياء الجدد وقوف الناس على عتبات الأبواب، أم ماهي القصة؟

- كما أن الخيبة الكبرى عندي ليست نابعة من "دلع" التمنع الغير مفهوم والغير مقبول، بل من فقدان أبسط القواعد الأخلاقية التي تفترض إماّ الرد على سياق الطلب لإستعراض حافظة المشاريع في أقل من نصف ساعة، أو حتى الإعتذار على الأقل.

- إبتسامة باهتة وجدت طريقها إلى وجهي وأنا أردد يخرب بيتك، على الأقل كنت تعمل فيها إداري محنك وتعطيني رقم جوال السواق، السكرتير، هاتف المكتب، بيجر البواب !.. فعلاً، عليك ما تستحق ياصاحبي، أنا شخص آت من طرف الكرة الأرضية من أجلك وفي سبيل رفعة أهدافك… قبل تلك اللحظة بثوان معدودة لم اكن اشعر بأننا غرباء عن بعض، لكن بعدها أدركت أن سعادة المحافظ قد سقط في غواية السلطة والتقليد أكثر من انجراره وراء هواية التجديد. ومن خلال خبرتي فإن نشوة السلطة دائماً واقعية، لكنها لا تمت إلى الحقيقة بصِلة، وغالباً ما يسقط المسؤولون ضحايا فتنة تلك الغواية.

لم تكن عودتي من منتصف الطريق إلى حيث أتيت بالأمر الهيّن. وجدت نفسي تلوم ذاتها، ربما بصوت خافت وأنا اجوب المطار ذهاباً وإيابا في إنتظار رحلتي إلى صنعاء. كنت اتساءل بحنق ما المغري أصلاً في زيارة نسخة اخرى من مدينة مقاديشو؟ من منا فعلاً يحتاج للآخر؟ هل من توصيفات وظيفة المسؤول في اليمن السعي الدؤوب والممنهج إلى تحطيم ذواتنا المادية والمعنوية؟ وماذا عن حفاوة الإستقبال لو كنت خواجة زائر وبشعر أشقر؟

ولأنني دائماً أجد في الإنحياز إلى التحوّل والإنجاز صاعق يفجر الطاقات الكامنة في الذات. أقنعت نفسي بأن كل ما أقوم به ليس سوى إحتجاج شخص أنهكه التعب ولهفة الإنتظار وعناء السفر. وأن إخفاق المحافظ هو جزء من واقع مهول لإخفاقات يمنية متكررة على كل الأصعدة؟ متسائلاً هل المعالجة تكمن في شتم المسؤولين ونعتهم بالحزبية وبالعنصرية والمناطقية وبالطائفية أو في أي تشكيك سلبي غير منتج.

يجب أن أشكر تلك التجربة - السخيفة أصلاً. لقد منحتني دفقاً روحياً جديداً امتحن صلابتي وصلتي بالحياة بصيغها المختلفة. تخيلت بعدها أن صوتاً سماوياً ينادي من أعلى: إمّا أن تكون هناك أو لن تكون. في هذه الحياة كل شيء متوقع ومحتمل. لست في مجال الإختيار بين انفعالك ونكوص الآخرين. من يهوى الحياة يجددها، بعكس من يعتبرها وسيلة لإغواء البشر. الحياة كالموسيقى لغة غامضة. من اليوم، قف شامخاً وأكمل المهمة، جاعلاً منها ومما وُهبت من لدنه سبحانه وتعالى حياة لك وللآخرين.

بعدها وبعد طول إنتظار في صنعآء لمكرمة موعد المقام الشريف في تعز، قررت عدم الوقوف عند حدود تعز شوقي هائل. والفعل الأصح هو نقل الخارطة إلى مكان آخر، فإذا لم نغير شيئاً فلن نكون أوفر حظاً من آبائنا، وسنستمر متأخرين ومتخلفين عن الركب. سنهرم مبكراً، وسنُهزَم مبكراً، وسنموت قبل الموت. ووجدت أن العبقرية هي في إسراع التطبيق في مكان آخر، حيث ستجد بعون الله مجالاً رحباً أكثر خصوبة، بمساعدة رجال تتوجهم همة عالية وشكيمة قوية.

كما تلاحظون فأنا أكتب مندفعاً، لأن حدسي الراهن يؤكد بأن محافظ تعز لن يعترف بأن هذه السقطة تستحق الإعتذار لشخصي ولكل أبناء تعز، بل ككل مكابر أتوقع أن يسقط مجدداً في فخ الفقه الدفاعي التبريري. ولن استغرب إن أخبرنا يوماً ما بأن كل ما حصل كان قراراً إستراتيجياً وطنياً في سبيل خدمة ابناء المحافظة.

- وربما يصدر بياناً يعلن فيه أنه أخيراً وضع يديه على الحقيقة الطبقية المطلقة، أي باللجوء إلى ذلك التبرير النفسي الذي ينزع إليه بعض المنتسبين إلى بيوت النعمة التجارية ممن تغلب عليهم نزعة النظر من عَلٍ، حتى أصبح يُسيطر على بعضهم لاوعي راسخ ومتأصل بأن العالم ليس سوى أشكال تتداعى على قصعتهم!

abdulla@faris.com