عام من الحرب… هل أخفقت الدعوة لأنسنة القضية الفلسطينية؟
بقلم/ إحسان الفقيه
نشر منذ: شهر و يوم واحد
الثلاثاء 08 أكتوبر-تشرين الأول 2024 06:16 م
 

عام مرّ منذ بداية معركة طوفان الأقصى، التي ليست لدى المنصفين سوى ردة فعل على عقود من الإجرام الصهيوني بحق فلسطين وأهلها.

هذا العام الأكثر سخونة في الألفية الجديدة، تزاحمت في صفحاته الأحداث الجسام، وشهد ما لا يحصى من القضايا السياسية والفكرية والجدلية، لنجد أنفسنا في تتمة هذا العام مضطرين لتقييم هذه الفترة، سواء ما يتعلق بأمتنا أو بالغرب والمجتمع الدولي.

من هذه القضايا التي ألفيتها بحاجة إلى تسليط الضوء عليها ومراجعتها وتقييمها، هي دعوتنا منذ انطلاق المعركة والعدوان الإسرائيلي الوحشي المستمر على غزة، إلى أنسنة القضية الفلسطينية.

ارتأى الغالبية العظمى منا أو ربما مجموعنا، العمل على أن تأخذ الحرب على غزة بعدا إنسانيا، من أجل الحصول على تعاطف الشعوب والمنظمات والأنظمة، وتوسيع دائرة التعاطف مع القضية الفلسطينية، وأن من شأن ذلك أن يعطيها زخما، ويستميل أحرار العالم على مشتركات القيم الإنسانية العامة، التي تتقاطع فيها جميع الأطر الدينية أو الثقافية لكل شعوب العالم.

اعتماد مقاربة إنسانية في خطابنا عن الحرب على غزة، وتجريدها من السرديات الدينية والسياسية، ومنحها السمت الإنساني، تأسس بناء على إدراك عام، بأن الصورة الذهنية للغرب عن الإسلام مشوهة بسبب التنظيمات المتطرفة، التي رفعت الراية الإسلامية، وقدمت صورة نمطية سلبية عن الإسلام، فمن ثم ينبغي وفق هذه الرؤية تعبئة الخطاب بالسمت الإنساني، ليتعامل معها الغرب متجاوزا ما استقر في ذهنيته عن الجماعات الإسلامية، وتعزيز فكرة أن المقاومة الفلسطينية لا تخوض حربا دينية، وإنما تدافع عن أرضها، وفقا لما أجمعت عليه دساتير العالم ومنظومته الحقوقية.

كما بُنيت هذه الرؤية على ضرورة تفويت الفرصة على العدو الصهيوني، الذي لا يتورع عن التصريح بالبعد العقائدي الديني لمعركته، واستدعاء النصوص والنبوءات المقدسة لدى اليهود، التي تعزز خطوات المشروع الصهيوني، وأعني تفويت الفرصة على رغبة حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرف في أن نعلن إسلامية المعركة بدورنا. والفرق بين الحالتين، أن استدعاء الصهاينة للبعد الديني هو أمر مقبول لدى المجتمع الدولي، لأن الدين هو الرابط الوحيد الذي اجتمع عليها يهود العالم، أما في الحالة الإسلامية، فليس مقبولا لدى المجتمع الدولي وشعوب الغرب أن نعلن أسلمة المعركة، لأنه قد استقر في العقلية الغربية أنها رافد للتطرف والإرهاب الذي مارسه تنظيم «داعش» على سبيل المثال، والذي لم يعد هناك شك في أنه صناعة استخباراتية لكل مدقق في السياق الحركي للتنظيم.

وما من شك في أن هذا الخطاب، أحدث تأثيرا على مستوى الشعوب والمنظمات الحقوقية، حيث تواترت المشاهد ناقلة نبض شعوب العالم تجاه هذه الأحداث، التي أيدت الحق الفلسطيني، وتعاطفت مع أهل غزة في محنتهم، فأصبحت بعض الجامعات الأمريكية والأوروبية في حالة سخونة مقلقة للأنظمة، التي فوجئت بنقمة تلك الجماهير على سياساتها الداعمة للاحتلال الإسرائيلي، وتعالت أصوات النداءات لوقف دعم الكيان المحتل.

كما صدر من حكومات بعض الدول غير العربية وغير الإسلامية مواقف مشرفة، مثل البرازيل والإكوادور وجنوب افريقيا. في المجمل، إعطاء الحرب على غزة والقضية الفلسطينية بعدا إنسانيا، أثار حالة غير مسبوقة من التعاطف من قبل شعوب العالم والعديد من المؤسسات والمنظمات الدولية إضافة إلى النخب الثقافية والسياسية. ومع أننا نثمّن هذا التعاطف من أحرار العالم على اختلاف مشاربهم وهوياتهم، وندين لهم بالشكر على هذه المواقف المشرفة، إلا أننا لا نجد بدا من التساؤل: ما هو حجم التأثير الفعلي لهذا التعاطف مع قضية غزة وفلسطين؟ ما تأثيره على مسار العدوان الصهيوني على غزة؟ لندع الإجابة على هذا السؤال لحين إلقاء نظرة على الواقع الحالي للحرب في سطور:

نتنياهو ماض في تدمير قطاع غزة، ولا يمر يوم إلا ويرتكب جيشه مجازر في عدة مناطق بالقطاع. بلغ عدد الشهداء 42 ألفا، وعدد المصابين 97 ألفا، إلى جانب الآلاف من المفقودين تحت الأنقاض. جيش الاحتلال وسع دائرة التصعيد في الضفة الغربية بهدف ابتلاعها، وهو الهدف الذي كان واضحا في خطاب الرئيس الأمريكي السابق والمرشح الرئاسي الحالي دونالد ترامب، حين تحدث عن مساحة إسرائيل الصغيرة على الخريطة، وأنه لطالما فكر في كيفية توسيعها. نتنياهو الذي دأب على رفع خريطة شرق أوسط جديد في كل مناسبة، توضح حدود دولته المزعومة، قام بتوسيع رقعة الحرب، ونقل مركز ثقلها إلى الشمال والجبهة اللبنانية. كثّف الاحتلال غاراته على مدن سورية، كدمشق وحمص وحماة وحلب وطرسوس في سبتمبر المنصرم، ما يؤكد ما تضمنته تقارير روسية من أن الهدف التالي للاحتلال بعد لبنان هو سوريا لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى، وفقا للتقرير.

الولايات المتحدة تقدم الدعم المفتوح والمستمر للكيان الإسرائيلي عسكريا ولوجستيا واستخباراتيا، إضافة إلى الغطاء السياسي في المحافل الدولية.

إذن، عمليا على الأرض، ووفقا لهذه المعطيات الواقعية، نبدي الأسف لعدم نجاح فكرة أنسنة القضية الفلسطينية، وربما يعود ذلك للأسباب التالية:

*أولا: أصحاب هذه الرؤية افترضوا أن استنادها إلى القانون الدولي الإنساني وميثاق الأمم المتحدة سيكفل لها النجاح، مع أن الواقع ينبئ بأن هذه المسميات محض شعارات، وأن الأمم المتحدة ومجلس الأمن والجنائية الدولية إنما هي منظمات مسيرة وفقا للمصالح الأمريكية.

*ثانيا: هذه الرؤية لم تضع في الاعتبار طبيعة المجتمعات الغربية، فهي ضحية الرأسمالية الليبرالية التي حولتها إلى مجتمعات استهلاكية تتمحور حول المادة والمنفعة، وأن هذه المجتمعات الاستهلاكية لن تصمد في صراخها بوجه أنظمتها لفترة طويلة، وبيان ذلك أن الحرب على غزة تمس العاطفة لديهم وليس المنفعة، وطبيعة هذه المجتمعات أن يغلب عليها ترجيح المنفعة والمادة مع ديمومتها، على العاطفة التي تنطفئ جذوتها بعد فترة، وهذا ما يفسر خفوت وهجها مؤخرا، إضافة إلى أن انطفاء الوهج أمر طبيعي مع طول الأمد لا يسلم منه شعب بما في ذلك الشعوب العربية والإسلامية، مع كامل اعترافنا بأن هذه الشعوب كانت أفضل حالا منا في الحراك من أجل غزة بما لديها من مساحة رحبة من الحريات.

*ثالثا: ظهور تغوُّل الأنظمة الغربية وسيطرتها على شعوبها، ولو عن طريق القمع كما ظهر في أمريكا وفرنسا ودول أخرى، في تجاهل تام لكل شعارات الحرية واحترام الحقوق، التي ترنمت بها هذه الدول دهرا.

هذه الأنظمة مدت مساحات من الحريات للجماهير نعم، ولكن ظهر أن ذلك في إطار الحياة العامة، أما ما يتعلق بالمصالح السياسية، فإنه لا صوت يعلو فوق صوتها، وكما هو معلوم وزاد وضوحا، أن دولة الاحتلال هي رأس الحرب للإمبريالية الغربية، وهو ما صرح به الرئيس الأمريكي بايدن حين قال: لو لم تكن دولة إسرائيل، لعملنا على إقامة إسرائيل».

تحويل قضية غزة وفلسطين إلى قضية إنسانية أشبه بجمهور الشاشات الذي يشاهد المباريات من خلالها، يهتف ويهتف ويهتف، لكنه في واد واللاعبين في واد آخر. إن من شأن أنسنة القضية الفلسطينية أن يُرضي العالم ضميره من خلال بعض المساعدات الإغاثية التي تدخل غزة وبإذن الاحتلال.

الفلسطينيون ليسوا متسولين لنقف بقضيتهم على الأبواب نستجدي تعاطف هذا أو ذاك، وينبغي أن نستدعي وبقوة الأبعاد الدينية والسياسية والقومية أيضا للقضية الفلسطينية، نُجيّش حولها الجماهير. نتوجه بالخطاب لا للإنسانية، بل نتوجه به لأبناء أمتنا، ليكون بعثا جديدا تنال به حريتها وتحرر به أراضيها، فكما قيل: ما حكّ جلدَك مثلُ ظفرك، فتولّ أنت جميع أمرك، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون