لم يسبق للمخلوع صالح أن استفاد سياسياً ومعنوياً من شبكة السراديب التي أقامها تحت المنطقة الرئاسية المحرمة بالعاصمة صنعاء، وهي المنطقة الواقعة بين جبلي النهدين، ووسط العاصمة، وتشبه المنطقة الخضراء في بغداد.
كان صالح قد استهلك في إنشاء هذه السراديب جزء كبيراً من الميزانية العامة المنهكة للدولة اليمنية إبان فترة حكمه السيئة الممتدة لأكثر من ثلاثة عقود، قبل الإطاحة به في 2011 بثورة شعبية عارمة عُرفت باسم ثورة 11شباط/ فبراير.
ولم تكن تلك السراديب سوى جزء من عملية محكمة لضمان أمنه الشخصي وأمنه الرئاسي، وجزء من البنية التحتية لمشروع تمديد السلطة وتوريثها وتأبيدها.
لا داعي للتوقف عند "الحفرة" التي خرج منها هذا الدكتاتور المتوتر الصغير، صبيحة السبت، فهي معروفة تماماً، المسألة ببساطة، هي أن هذه الحفرة هي واحدة من حُفر عديدة تتصل بالقبو الذي خرج منه صالح، وهذا القبو الواسع يقع تحت المنصة الرئيسية للعروض في ميدان السبعين، بوسط العاصمة، وهي المنصة التي ألقى منها خطابه أمس السبت.
هو قبو تتشعب منه سراديب عديدة تتصل بالمسجد الكبير الذي أُقيم في ميدان السبعين نفسه، وتتصل ايضاً بدار الرئاسة ومنازل خاصة بالمخلوع في حي حدة القريب وبمعسكرات عطَّان التي تحوي مخزناً مهماً للصواريخ البالستية، وكانت هدفاً لضربات التحالف طيلة الفترة الماضية..
هذا القبو - وفقاً لمعلومات دقيقة- كان سجناً سرياً، تابعاً للجهاز الأمني الخاص للمخلوع، ولطالماً اختفى فيه أناس محترمون ممن كانوا يرون صالح على حقيقته باعتباره كارثة حلت بهذا البلد، ومعظمهم كانوا من ضباط الجيش ومن الدائرة المقربة الذين كان يخشى من خطرهم على حكمه.
غامر صالح في الخروج من السرداب ليلقي كلمته المقتضبة ويرحل ويترك الجموع ربما لأنه كان يخشى أن يقدم التحالف على استهدافه، ولكن التحالف قوة إقليمية منضبطة وتعرف كيف وأين تستخدم قوتها.
ذهب المخلوع صالح بعيداً في توظيف صراخ أنصاره، ليطرح مطالب من بينها إنهاء الحرب عبر قرار من مجلس الأمن وفرض حظر على وارادات الأسلحة للمملكة العربية السعودية.
وطبعا ليس هذا كل ما أراده صالح من تحشيد أنصاره، فهي مطالب لن تتحقق وهو يعلم ذلك جيدا، رغم أنه يأتي في سياق المواجهة مع ما يصفه بــ: العدوان".
لكن الحقيقة تقول غير ذلك، ففي ثنايا دعوة المخلوع لتحشيد أنصاره رسائل أخرى وغايات ترتبط أكثر ما ترتبط بدوره في المفاوضات المتوقع أن تعقد في الكويت في الـ18 ن نيسان/ أبريل، كما أفاد المبعوث الأممي إلى المن إسماعيل ولد الشيخ، وبحصته التي يبدو أنها تآكلت لصالح شريكه في الانقلاب ميلشيا الحوثي؟.
في حقيقة الأمر يمر صالح بتحدي وجودي هو الأخطر في مسيرته السياسية، بعد أن تمكن حليفه الحوثي من إيجاد قنوات للتفاهم مع الجار القوي لليمن، المملكة العربية السعودية، نجحت في التهدئة على الحدود التي اعتبرها زعيم الميلشيا في خطاب له عشية الذكرى الأولى لبدء "عاصفة الحزم"، خطوة باتجاه حوار ينهي الحرب.
هذه الخطوة دفعت بالخلافات بين صالح والحوثي إلى السطح، وما كان صالح قد أراد إخفاءه في خطابه قبل يومين، أظهره زعيم الميلشيا في خطاب مماثل له اليوم التالي.
قد تكون هذه التظاهرة هي معركة صالح الأخيرة التي يخوضها في وجه مهددات كثيرة.. لكنها في تقديري كسابقاتها التي لم تنجح أبداً في التأثير على مستقبله السياسي بعد أن تورط في حرب مدمرة بعد نيله حصانة غير مستحقة من برلمان يهيمن عليه حزبه المؤتمر الشعبي العام.
لا يمتلك هؤلاء الذين شاركوا في مظاهرة إنقاذ صالح وعيا سياسيا ولا حسا وطنيا ناضجا، بل تحركهم غريزة القطيع، لأنهم لم يستدعوا الذاكرة أبداً ولم يجروا المقارنة الضرورية ليكتشفوا ما الذي حل ببلدهم منذ عام بسبب المخلوع صالح.
ففي الأول من مارس من العام المنصرم كان صالح نفسه قد حقق ما هو أعظم من مجرد استجلاب متظاهرين إلى ساحة عامة لمدة ساعتين، فقد استعاد الدولة وطرد الرئيس الذي تواطأ على سلطته وفرط بها، وكاد أن يعلنها جمهورية خاصة به وبفريقه الجهوي، لولا تدخل التحالف العربي، أما اليوم فقد اصبح مختبئاً في ملاجئ سرية.
خرج هؤلاء ليحتفلوا بالإنجازات الخائبة للمخلوع صالح، الذي أطاح بالدولة وبمقدراتها وبالوحدة الوطنية، وبالعيش المشترك، ودمر الاقتصاد، وحول اليمنيين إلى أوسع كتلة بشرية محتاجة في شبه الجزيرة العربية، وفرط حتى بالمكتسبات التقليدية للمجاميع التي تحلقت حول منصبة ميدان السبعين، والمتمثلة في الهيمنة على الجيش والأمن، والسلاح، كل هذا تقريباً تم تدميره، ولم يتبق منه شيئاً..
فلماذا يحتفلون ولماذا يهتفون باسم هذا الموتور الحاقد.. بالطبع جميعنا يتطلع إلى دولة لا تهيمن عليها جهة ولا قبيلة، فقد جربنا هذا النوع من الهيمنة ليس في اليمن فقط، بل في بلدان عربية أخرى عديدة كان الحصاد مراً وخسر الجميع خسروا كل شيء تقريبا..
أهم إنجاز حققه صالح اليوم أنه أتقن استخدام القبو وقدم دروساً مهمة في فن استخدام القبو والسرداب.. لكنه قطعاً ليس المهدي المنتظر للمجاميع التي خرجت لتهتف باسمه، قبل أن تتحرك إلى ميدان آخر يخص ميلشيا الحوثي في شمال العاصمة، في عصر اليوم نفسه، لمشاركة مغامر آخر احتفاءه بمشروع التآمر على الدولة والوحدة الوطنية.