|
باب الصداقة والأصدقاء ليس باباً سهل الولوج بل مكلفٌ وتتبعه مشقةٌ ،أولها الوفاءُ وآخرها التضحيةُ، لا يقدر عليهما الا العظماءُ الأوفياءُ،لا إنسانٌ ضعيفٌ مثل كاتب السطورأعلاه ،ولطالما اشتكى الناس والأدباء والشعراء من غدر الأصدقاء وقلة وفائهم،وكنتُ قد أوضحتُ في مقالةٍ قديمةٍ على صفحات هذا المنبر القشيب كيف يشتكي الشعراء من غدر الأصدقاء ،وكيف وردت كلمة (الأصدقاء) في شعر عبد العزيز المقالح بالمعنى السلبي العكسي، بمعنى( الأعداء)،يقول في فاتحة قصيدته أبجديات الروح:
إلهي
أعوذ بك الآن من شرِّ نفسي،
ومن شر أهلي،
ومن شر أصحابي الطيبين،
ومن شر أعدائي الفقراء الى الحب،
وكنت قد كتبت دراسة نقدية احتفى بها هذا الموقع وكذا (بيت الشعر اليمني) عن قصيدة (عودة السندباد)، من روائع الشاعر اليمني عبد الغني المقرمي ،عنوان الدراسة (نظرية الخلاص في قصيدة عودة السندباد للشاعر عبد الغني المقرمي)،أهداها المقرمي لشاعر آخر اسمه عبد الإله الشميري،بعث بقصيدة إلى الأول يشكو غدر الأصدقاء،فا لمهداه إليه مصلوبٌ على أعواد قصيدةٍ مثخنةٍ بالوفاء، والشعر هو المخلِص لأصدقاء "تآكل وجهُ القصيدةِ تحت سنابكِ قسوتهم". ..والقصيدة هي:
تناءى بكَ الزمنُ الغجريُّ إلى وجعٍ في أقاصي
القصيدةِ تستوقدُ البوحَ في ظل مثمرةٍ من
ألمْ
وتنسجُ من ذكرياتِكَ والأصدقاءِ مواويلَ
تمضي بها الريحُ... ترجعُها الريحُ... تمضي بها..
وتعودُ بها والمسافاتُ بينكَ والأصدقاء
الذينَ منحتَهمُ وردةَ القلبِ ثم مضوا.. برزخٌ
من سأمْ
لكَ اللهُ... ما زلتَ تسألُ كلَّ الأزقّةِ
عنهم، وما زلتَ تبحثُ بينَ قصاصاتِ أمسكِ
عما
تيسّر من قطراتِ عواطفهم، ثم تأوي إلى خيمةٍ
مزّقتْها عواصفُهم مثخناً بالوفاءِ، وهمْ
تركوك بقارعةِ الحزنِ معتصماً بنثار حروفٍ
ومحتضناً لبقايا نغمْ
ومازلتَ رغمَ المواجعِ... مازلتَ تبحثُ بين
حُطامِ حرائقهم عن تميمةِ عشقٍ تعيدُ الفتى
السندبادَ إلى مدنٍ طمرتها رياح البلى،
وطواها العدم
إلى أينَ يمضي بكَ الشعرُ في الزمنِ الغجريِّ
إذا ما تآكلَ وجهُ القصيدةِ تحتَ سنابِك
قسوتهم، واختفتْ مدنُ العشقِ عنكَ وعنْ
عاديات المساءِ فلا القلبُ يسلو هواهُ ولا
الأصدقاء الذينَ مضوا يشرقونَ فضاءً بليلِ
الندمْ
همُ
لقّنوا القلبَ أشواكهم.. زرعوا في روابي
القصيدةِ مقبرةَ، ومضوا أصدقاءً سكرتَ بهم
زمنَ البدءِ حتى الثمالةِ، ثم مضوا بعد مطلعِ
شمسِكَ غاشيةً من ظُلمْ
أعدْ ما بدأتَ .. فللقلبِ حينَ يئنُّ
عناقيدُهُ المثقلاتُ.. وللروح حين يداهمها
اليأسُ متّسعٌ من عروجٍ إلى سدرة المشتهى
حيثُ يشتعلُ الشعرُ في صرحهِ الأزليّ، وتشدو
عرائسهُ للألى خرجوا من رماد الخوالي.. وجاءوا
إلى خيمة نسجتها السماء لكل الذين سموا في
فضاء الحقيقة متّشحين قصائدهم رغم هذا
الدخانِ... وهذا السكونِ.. وهذا الزمانِ الأصم
سلام عليكَ... وقد خبّأ الشعر في
مقلتيكَ
شجونَ الفصولِ، ولمْلمَ أضواءَهُ قمراً
يتلألأُ في شفتيكَ، وآواكَ حينَ تنكّركَ
الأصدقاءُ إلى ربوةٍ ظلّها دائمٌ تتعانقُ
فيها القلوبُ التي طُهّرتْ بالألمْ.
*******
ولكن لن أقفل هذا الباب الجميل وِانْ لم أقدر على الوفاء تجاه اصدقاء أحبوني ولم أحبهم، وأفوا معي فغدرتُ بهم،وأخلفتُ وعدهمْ،ولكم كان يعاتبني صديقً هنديٌ باحثٌ في اللغة العربية،يردد لي البيت التالي:
وعدتَ وكان الخُلفُ منكَ سجيةَ... مواعيدَ عرقوبٍ أخاه بيثربِ
ولئن كان الصديق الوفي زميل الدفعة المتميز في الجامعة علي الغَيْل،الأرق من هديل العَيْل، قد فتح هذا الباب بأنامل وفائه الجميل، فإنه حقاً قد أخجل بالإطراء كل كياني،أقول له:
أخجلتَ بالإطراء كل كياني .. وحجبتَ في سحر البيانِ بياني..
وبالرغم من تزاحم تكاليف البحث علي،فلن أتخلى عن بعض وفاءٍ أكتبه من الذاكرة اليوم عن واحدٍ من(كتاب أصدقاء الغيْل،زملاء الدفعة)،فكل اصدقائه أصدقائي، وكل أحبته أحبائي، من زملاء الدفعة الإنجليزية في جامعة صنعاء،كلية التربية (1986-1989)،أحفظ تاريخهم وأعرف ألوانهم وأسماء آبائهم واحداً واحداً...ونبدأ الصفحة الأولى من هذا الكتاب بـ
عبد السلام المكردي
شابً أسمر اللون ،شعره فلفلي،كشعر أم عنترة زبيبة،يتكلم صنعاني،يلبس فانيلة سوداء وبنطلون رمادي،هادئ البسمة وساخر النكتة،وذكي اللفتة،تربطه بـ الغيل عًمق صداقة وقوة علاقة،جمعت بين الأسمر الفلفلي والأشقر القرنفلي،كان واضحاً أن (سُلُم)-انا سميته مدللاً (سُلُم)-يميل الى الغيْل أكثر،لكن ليس ميول التابع للمتبوع،فالمكردي يملك قوة الشخصية وحجة الإعتراض والجدال،وكان كثيراً ما يجادل الغيْل،على عكس الزملاء الآخرين من مثلي ومثل علي القنوص(الطيب)،أو سمير العبسي (الأطيب)، أوداود المصباحي(المثالي)، كنا نميل الى مجاملة الغيل كثيراً،فهو قوي الشخصية ويفرض رأيه في الكلية،وكان عبد السلام مجتهداً في مواد التخصص غير أني كنت أهزمه في مواد المتطلبات التربوية،والتي كنتُ أنافس بها محمد مهدي الريمي بقوة،فالريمي كان شديد الحفظ في المتطلبات،وكنتُ انا والريمي نجعل من محاضرات الدكتور بدر الأغبري أستاذ المتطلبات التربوية،مبارزةً في الحفظ والتسميع، وسط همس وضحكات البنات في الخلف، من كل التخصصات العلمية والأدبية في القاعة الكبرى،وكانت تلك المساجلات بيني وبين محمد مهدي أشبه بإسكيتش كوميدي ممتع للطلاب والطالبات...
كانت عقدتي الثقافية –الخجل والحياء الزائد-كما عبر علي الغيل في مقالته (خباز بني شيبان)،وعقدة أخرى أبوح بها الآن، عقدة ثقافية من أهل صنعاء (الزيود)،طُبع في ذاكرتنا التاريخية –نحن أهل تعز-أن أهل صنعاء حكام علينا وعساكر ومتنفذون الى أن تقوم الساعة،هم السلطة والقوة ونحن الرعية الضعفاء..وقبل التعرف على زملاء من صنعاء أوأصدقاء يتكلمون صنعاني كانت هذه العقدة على أشدها،بالرغم من بقايا قصة قديمة لزيدي لطيف لن أنساه قط ، فضل علي الحلالي (الزيدي الجميل، والأبيض الوسيم،الباهي،الخلوق) درسني في صف خامس ابتدائي بـ معهد تعز العلمي،أول من بدأتُ -لشدة حبه لي وتدليلي الزائد في المعهد-أفكر أن الزيدي أو الصنعاني يمكن أن يكون أيضاً جميلاً ولطيفاً وطيبا..،فهمتُ بعد ذلك بسنوات طويلة أن فضل الحلالي(استشهد في حرب 1994 الخاسرة بعدن) لم يكن أصلاً مدرساً لجغرافية صف خامس، وإنما كان ذلك واجهة لعمل تربوي إخواني في تعز..
ثم كان عبد السلام محمد صالح، الأسمر المفلفل يتكلم الصنعاني بأخلاق ألطف وابتسامات أرق وروح فلفلية سمراء أنيقة،هادئة ازالت بعض هذه العقد التاريخية المتراكمة من خطاب( اهل صنعاء الإستعلائيين)..لم اسأل أبداً (سُلُم) عن أحواله الشخصية ولكن ربما علمتُ أنه كان متزوجاً،ومن الزملاء المتزوجين من قبل الحصول على القبول الجامعي في قسم اللغة الإنجليزية،علي الغيل وأمين شائع وأمين شجاع وعبد السلام محمد صالح،وخالد شرف سعدان الحكيمي وخالدحُميد(الناشط الإسلامي الخدوم والمحترم، من حجة) وسلطان شايف اليوسفي..وكان سُلُم شاباً محترماً ملتزماً وكل أصدقاء علي الغيل كانوا بهذا الإلتزام،لم يخطر ببالي أن اسأل عبد السلام المكردي عن أحواله الخاصة،وكل ما كان يشغلني كيف كان يتفوق علي بالقراءة والإستماع وخاصة الإستماع في المعمل محاضرات الآنسة (جين ناينام)بريطانية زيمبابوية بيضاء، فرضت حضوراً كبيراً على كل طلاب اللغة الإنجليزية ، وكان يتفوق علي في محاضرات كريستوفر البريطاني (عبده ريدينج)التي كان يتسيدها أمين شايع وعلي الغيل وعمر علي جيلان المبدع أبو شنب(من ميدي) ..وكان عبد السلام يجيد فن الإستماع الى أشرطة محادثات اللغة الإنجليزية والإجابة على الأسئلة في ضؤ ذلك، وكذلك كان (الأخطر دهاءً والأقصر قامةً، المغرور اللطيف واللص الظريف)فؤاد الحارثي، الذي طالما كان يستعرض علي،و يزعم أنه أحسن من ينطق اللغة الإنجليزية في الدفعة وكل الدُفَع،غير أن المكردي الأسمر ما كان مغرورا كغرور فؤاد الذي يمكن أن أشبهه بـ فؤاد الشامي في كتاب الروائي المصري عبد الحميد جودة السحار(قصص من أيام حياتي)،كان فؤاد الشامي شاباً مفتول العضلات ويأسر كل أولاد الحارة برواياته عن قصص بطولية خارقة يقوم بها في الحارات المجاورة ولا يجرؤ أحد على الإعتراض عليه، لأنه زعيم الحارة ويجيد فن الكلام واختلاق القصص ورواية البطولات ...لم يخطر ببالي –وأنا الخجول أن اسأل عبد السلام عن حياته الخاصة،وكان يشغلني قربه اللصيق من علي الغيل،ويعجبني مشاداته ومجادلته اللطيفة للغيل حول قضايا أكاديمية أو علمية أو اجتماعية...
ولكن لست أدري لماذا كان عبد السلام الأقرب الي روحياً أكثر من خالد شرف وخالد حُميد الناشطيْن الإسلاميين،وأكثر من الناشط الإسلامي طه أحمد حسن (المتشددالعنيف)،وبالرغم من أناقة وعقلانية أمين شايع وداود المصباحي،وبالرغم من صداقتي المنفتحة لـ( الزناط الجميل) محمد مهدي الريمي، الذي جاد علي كثيراً من ماله وأسكنني معه مجاناً لمدة طويلة في غرفته بحارة الرقاص،الا أن عبد السلام كان الأقرب الي،وكأنه وكأنني،نخفي قصص متشابهة في الخجل،أو أرواح متشابهة،شكلتها البيئة الثقافية،كان يمتعني باللطائف الصنعانية وأرد عليه باللطائف التعزية...،وكان يخفي حزناً ما،وكنتُ أخفي غربةَ ثقافيةً في صنعاء (بلاد الزيود)...كم ندمتُ أنني لم اسأل عبد السلام هل بإمكان التعزي القروي أن يتزوج من صنعاء، واحدة من زميلات الدفعة؟ كم قيدتني تربيتي القروية في الريف التعزي المركوم بقصص الخوف من( التسلط الصنعاني)...ثم بعد عشرة أعوام من التخرج مررتُ على كلية التربية جامعة صنعاء،كمرور قيس على ديار ليلى، أتذكر الزملاء وأشياء خوفتني أن أبوح بها حين كنتُ في الجامعة، لأنني من قرية في ريف تعز،أخاف من اقتحام أسوار الجمال الصنعاني المتمدن، فكتبتُ هذه القصيدة في أروقة الكلية متجولاًبحسرةٍ بين الطواريد،أهديها في هذه الحلقة ل
عشرٌ مضت- لو تنفع الذكرى- أكاد إذا ذكرتكِ لا أصدق أنني ضيعتها وأضعتكِ الأخرى, أعض على بناني كلما قالوا رحلتِ عن القرى وأحاكم الأحزان في طرقات خاتمتي.. أحاكم حسرتي علناً أصيح بها لماذا خانني حسن التصرف؟.. كيف أعماني ضبابُ الخوف عن قمرٍ يمر ولا أرى؟.. لا لن أسامح خيبتي ومصيبتي.. جاوزتُ شمسكِ لا هياً حتى أتاني أنكِ الأحلى وإني قد أضعتكِ يوم ارداني شعوري ذلك المصبوغ باللون البدائي العتيق ورثته عن جارةٍ راحت تحرضني على حسبٍ قبالة دارنا وتصدني عن غادةٍ في الضوء.. كيف سمعتها وأطعتها وأبيتُ ما فاخرتُ من شهبٍ ومن كتبٍ فباءت خيبةً وثقافةً عمياء ما أغنت وما أجدت وما أفضت وسيلتها إليك.
* * *
اليوم يحضرني غيابكِ بعد عشرٍ ضائعاتٍ في جحيم الغلطة الكبرى فلا حبٌ ولا ماءٌ ولا ثمرٌ هنا ويلاه من نصبٍ ومن قفصٍ حديديٍ فهل لي من خروجٍ أو إلى سبلٍ تخلصني وتطلقني وتوصلني إليك؟؟
* * *
اليوم يحضرني غيابكِ.. هل لشطرٍ ضائعٍ من كرةٍ أو سيرةٍ أخرى.. وهل من رجعةٍ؟ لو أن لي فأعود في غير الثقافة أقرأ الآياتِ عن كثبٍ وأحفظ كل أسماءِ التفاسير الطوال.
* * *
اليوم يحضرني غيابكِ بعد عشرٍ كلما قلَّبتُ في صفحاتها الفيتني خطئاً كبيراً طائشاً لم يحسن الفتوى ولم يفقه بنات العصر آفاقاً وأبواباً فسيحات وطولاً للزمان وللمكان.
* * *
اليوم يحضرني كلامٌ واتهامٌ يعتريني ثائرٌ للبوح للإفصاح يحضرني شهيدٌ من لدني قائمٌ: إقرأ كتابكَ وحدكَ المعنيُ بالحسرات لا أحدٌ ويحضرني البيان: اليوم تحصد ما بدأتَ وما صنعتَ (ولات ساعة مندمٍ) أنسام هل من كرةٍ؟ أنسام هل من رجعةٍ؟ لو أن لي فأعود في عمرٍ جديدٍ آخر ٍويعود ما ضيعتُ من قمرٍ وما أخطاتُ من ضوءٍ حريري البنانْ....
a.monim@gmail.com
في السبت 17 إبريل-نيسان 2010 11:55:54 ص