|
مأرب برس - خاص
سألت أحد الزملاء العرب من المتدربين في اليابان، لماذا يصرون على تعريفنا باللغة اليابانية – الصعبة جداً – برغم أننا لن نقيم في اليابان إلا أسابيع محدودة؟ فأجاب: من عرف لغة قومٍ أمن شرهم. فقلت في نفسي: الحمد لله أنني أعرف اللغة العربية!ا شر في اليابان إلا الذاكرة .. ومهارة المقارنة العنيدة التي تعكر صفو التأمل الحضاري في معالم هذه المدنيّة الفذة .. فما لي وللمقارنات الساذجة التي لا مكان لها في معادلة النسبة والتناسب! إن كانت اليابان تنفق على الصحة ثلاثة أضعاف ونصف ما تنفقه على الدفاع، أو كانت نسبة التعليم في عام 1975م 35%، وارتفعت في عام 1985م إلى 99.9%، أو كان التعليم الحكومي في مستوى التعليم الخاص إن لم يكن أفضل، أو معدل البطالة 5% أو أقل .. فهذا كله شأنهم .. أما نحن فلنا أولوياتنا .. الأخرى ..إن كان يموت في اليمن ما يزيد على خمسين ألف طفل دون العام سنوياً بسبب أمراض يمكن الوقاية منها أهمها سوء التغذية، وكانت الموازنة السنوية لإدارة التغذية المعنية تسعة ملايين ريال فهذا حديث في السياسة لأنه حديث عن الأولويات، أما في اليابان فلا حاجة لحديث السياسة .. فقد حسمت الأمة أمرها بعد انهيارها في أغسطس 1945م، وقررت أن البناء يستهدف الإنسان، صحة وتعليماً و إرادة بناء
.
لا وصفة سحرية للتطور الهائل الذي حدث في اليابان .. الشخص الذي يستقبلك عند سلم الطائرة بالتحية اليابانية، وأنت مواطن عادي، يحب اليابان، وموظف الجوازات الذي ينهي معاملة جوازك –العادي- خلال دقيقتين ونصف ويعتذر لك عن التأخير يحب اليابان، والمرأة المسنة التي تقدم لك الطعام وهي تبتسم بإخلاص ثم تتسلم منك قيمته بكلتي يديها تحب اليابان .. الجميع في اليابان يحب اليابان
..
لقد تعلمنا صغاراً قول الشاعر
:
الناس للناس من بدو ومن حضر بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
غير أن التطبيق العملي للشعر العربي الفصيح يحدث هناك في اليابان .. فالكل في خدمة الكل، ومفهوم الخدمة حالة إنسانية نبيلة يجسدها كل من تصادفه ..فنظام الخدمة المدنية في اليابان يقوم على مبدأ الوظيفة مدى الحياة، وبالتالي للموظف الحق في الاحتفاظ بموقعه في المؤسسة التي يعمل فيها إلى حين تقاعده من الدنيا وفق إمكاناته بالطبع، ويزداد راتبه بناء على عمره، أما التدرج في المناصب للوصول إلى المناصب الأعلى فتنافسي خاضع لمعايير الكفاءة الذهنية والفنية، والقدرة على التعامل مع الآخرين، وبالتالي الشخص المناسب في المكان المناسب ليس شعاراً بل آلية تنفيذية .. والعمل في اليابان عبادة .. هم على باطلهم في اعتقادهم .. وصوابنا في عقيدتنا .. يحترمون الباطل أكثر من احترامنا للحق .. في اليابان أكثر من ثمانية ملايين إله .. فهم لا يقطعون الأشجار خوفاً من سخط إلههم المزعوم، وبالتالي فإن ثلثي اليابان جبال مزروعة وغابات، أما نحن على صلاح اعتقادنا فلا نبالي بقطع الشجر والبشر .. من أجل قطعة أرض لا تحق لنا .. وغضب من غضب .. في الأرض أو في السماء .. غير أن عقيدتنا سليمة .. أما التطبيق فلا يهم
!!!
مصارع السومو يبدأ طقوسه على الحلبة بالصلاة، ثم ينثر الملح لتنقية المكان، وبعد الانتهاء من رياضته الروحية يبدأ رياضته الجسدية .. والموظف يحرص على ممارسة الرياضة خلال عمله تجنباً لمضاعفات أنماط الحياة الحديثة أو ما يعرف بحياة القعدة، وحدث ولا حرج عن طقوسنا القاتية جسداً وروحاً .. وتنقية مكان
!!!
وللوقت في اليابان قداسة .. وبرغم أني لست متأكداً إن كان لديهم إله للوقت من نوع كاسيو أو سايكو أو غيره .. إلا أنني متأكد من أن احترام الوقت نمط عام لا استثناء فيه، وسمعت أحد أساتذة الجامعة في اليابان يؤكد أنه لا يوجد عذر لأحد في التأخير، فشبكة المواصلات المتوافرة، خاصة القطار، تمكن 124 مليون إنسان من الوصول في مواعيدهم، فإن تأخر أحدهم فليبحث له عن عذر آخر غير المواصلات! وهنا لا يسع المرء إلا أن يشكر القائمين على مشاريع الطرقات الجبارة في بلادنا أن هيأوا لنا كل الأعذار للتأخر ساعات لا دقائق فقط
..
أقول .. ولا زال الحديث في مجال القطارات .. أن القطار لا يتأخر .. وإن تأخر دقيقة أو اثنتين فلا بد من الإشارة والاعتذار لجميع الركاب، وهو وسيلة نقل نظيفة وأنيقة، ويتعامل معها الغني والفقير، رئيس المؤسسة وأصغر موظف فيها
..
الإنسان محور التنمية وغايتها هو ما نسمعه دوماً في أدبياتنا الإعلامية، فمتى يكون الإنسان في بلادنا إنسانا؟
خلاصة القول: في اليابان يوجد إنسان
..
بعد انتهائه من قراءة ما كتبت .. عاتبني أحد الأصدقاء على الإفراط في تقريظ التجربة اليابانية، فكتبت له:نعم إنها فرصة سانحة لإعادة القراءة تلك التي منحتني إياها رحلة تدريبية إلى اليابان، ليس في السطور فقط .. وإنما في النظرة إلى الأمور من حولي، ولا شك أن خلف كل وجه نراه ذات مجهولة، قد تسمح بسبرها وقد تمنع التجوال في أغوارها، ولا شك أن اليابانيين يمتلكون مهارة ارتداء الأقنعة، وتزيينها
.
وأتفق مع أحد الأصدقاء أن الفوضى يمانية وطنية .. أقرب وأحب إلى القلب من النظام مهجرياً اغترابياً - إن صح التعبير غير أنني أستميح القاري العذر، ونحن نرفض أن نكون إمعات لأحد، أن أقف قليلاً على النتائج..أتاحت لي فرصة وجودي في اليابان فرصة الاستماع إلى عدد من المحاضرين الأكاديميين، وما لفت انتباهي في جميع ما سمعت قاسم مشترك واحد، قاسم يمثل المسؤولية الجمعية، استيعاباً لدروس الماضي، وتطبيقاً لخطة الحاضر، واستعداداً لمتطلبات المستقبل، فالجميع تحدث انطلاقاً من رؤية واحدة، وفلسفة إنمائية متفق عليها، وقد شمل ذلك المحاضر في خصائص المجتمع، والأستاذ في الاقتصاد، والاختصاصي في التعليم، والمدرس لمادة التاريخ
.
ولكم كانت دهشتي كبيرة وأنا أستمع للمنطق التحليلي ذاته، فهم على اختلاف تكويناتهم المعرفية يصيغون بانسجام تام رؤية قومية شاملة، ويجيدون قراءة المؤشرات، ويعملون من أجل تطبيق معيار نبيل .. ذلك هو الجودة في كل تعاملاتهم
.
الحضارات، حسب رأي توينبي، هي نتاج الأقلية المبدعة، وهكذا هو الحال في اليابان، قلة مبدعة تقود المسيرة، وكل يأخذ دوره في دورة البناء والتحديث، وفق مؤهلاته، والمؤهل لا يعتمد على القدرات الذهنية والفنية فقط، بل يتجاوز ذلك إلى المهارة الإنسانية في التعامل مع الآخر، وكأني أرى الخطاب القرآني دالاً واضحاً في هذه الممارسة الإنسانية القيمية بقول الحق تبارك وتعالى مخاطباً رسولنا الأكرم: "ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك"، وقوله سبحانه وتعالى: "وقولوا للناس حسنا". وفي مفهوم الجودة يعلمنا نبينا: " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه
".
نعم .. لديهم فراغ روحي بدون شك، لكنهم يستعيضون عنه بالعمل .. حتى صار العمل في ديدنهم عبادة .. والممارسة الروحية فعلاً لا قولاً، أوليس هذا هو جوهر خطابنا الروحي في الحث على التقانة في العمل!وها هو الشاعر الياباني كواباتا ياسوناري مجسداً الرؤية اليابانية للإتقان بعبارة مختصرة: (يكفي غصن شجرة مرسوم بعناية .. أن يسمع صوت الريح).فليصدقني القارئ الحبيب أنني وأنا أتعلم إمعان النظر فيما حولي، لست مغتبطاً بتطورهم بقدر حسرتي لتخلفنا .. وأحب أن نتعلم منهم الدروس، فهم لا يجدون غضاضة في وصف أنفسهم بالأمة المقلدة التي تنسخ تجارب الآخرين، تطورها، وتعيد تصديرها، وهكذا صارت اليابان القوة الاقتصادية الثانية في العالم
.
إن لليابانيين رسالة في غياب اعترافهم بالنبوة الحقة، ولكن المؤلم أننا ونحن أرض الرسالة لا نجد بيننا رسالة. فلنتابع ما يكتبه بعض من المثقفين على الصفحات الالكترونية، وما يدور في عدد من أحاديث جلسات القات اليومية، وما يطبع وينسخ ويروج له من تكفير وتهديد ورفض للآخر المسلم، كل هذا وألسنتنا تصدح بنبوءة الرسول الأكرم بتهالك الأمم علينا، فنقرأ ونفهم ونطبق لكن في اتجاه مغاير للصواب! فماذا صنعنا بأنفسنا
!
ختاماً أقول أن كثيراً من أبنائنا يجيد انتزاع نور الفجر من بين ترسانات الهزيمة، وأحسب أن كل مؤمن بقضيته واحد منهم.. وأن قلة مبدعة من بيننا ستصنع التغيير
..
في الأحد 16 سبتمبر-أيلول 2007 11:01:44 ص