تمر اليمن بمرحلة انتقالية توافقية لنقل السلطة. ومن المتوقع أن يكون أحد مخرجات الحوار الوطني الذي سيعقد مؤتمره بعد أيام هو التوافق على إقامة تجربة ديمقراطية توافقية تتضمن تغييراً في شكل الدولة وطبيعة النظام السياسي.
ما هي المشكلة الواقعية في اليمن التي ينبغي الاستجابة لها في المخرجات التي سيحددها مؤتمر الحوار ، وتحديداً في تقريره لشكل الدولة وطبيعة النظام السياسي؟
هل كانت مشكلتنا نظاماً تسلطياً ديكتاتورياً يقوم على العصبية القبلية.أم أنها تكمن في عدم انجاز الدولة أصلا في التاريخ اليمني المعاصر؟.أم أننا بالفعل مجتمع منقسم، بعض هذا الانقسامية طارئة، أجّجها الاستحواذ وغياب دولة القانون ، وبعضه بسبب ديمقراطية الأكثرية العددية التي انتهجت في 93 وأدت إلى الحرب ، وبعض هذه الطبيعة الانقسامية ناتجة عن سمة المجتمع اليمني كمجتمع تعددي.
الأرجح أن المشكلة مزيج من هذه وتلك. ابتداءً كان لدينا احتكار للسلطة تركز في الهضبة القبلية ، حيث ورثت العصبية القبلية نظام الأئمة الطائفي وعممت سيطرتها في حرب 94 على كل اليمن قبل أن تختزل العصبية القبلية الموسعة إلى العائلة الصغيرة والفرد الأوحد ووريثه. ومن هذه الزاوية كانت المركزية المفرطة تعبيراً عن هذا الاحتكار العصبوي أكثر من كونها تعبيراً عن الطابع المركزي المهيمن على الأطراف في ظل دولة حديثة.
لقد كانت التسلطية الفردية العائلية المستندة إلى عصبوية قبلية هي سمة هذا النظام ، وتجميع السلطات كلها في المركز المهيمن كانت غلافا لمصالح هذا التكوين التسلطي أكثر من كونه تعبيرا عن دولة مركزية قائمة على تغليب مصالح الأكثرية التي ينتجها نظام ديمقراطي قائم على الأغلبية العددية والانتخابات.
حتى إذا تعمقنا أكثر في تفحص روافع النظام والمصالح التي مثلها والعصبيات التي وظفها لخدمة احتكار الفرد والعائلة للسلطة فلن نصل إلى أكثرية أفرزتها ديمقراطية الأغلبية العددية ، وإنما سنصل إلى أقلية قبلية عصبوية وظفها النظام لخدمته واستخدمها مخزون بشري مساند لاحتكاره ، وغطاها بديموقراطية صورية شكلية وظفت لتحسين صورته وتسويقه في الخارج وإضفاء مسحة زائفة من الشرعية أمام المجتمع المنهك بالفقر والانقسامات ومراكز النفوذ والقمع والهيمنة والفساد.
هذه السمة العصبوية لنظام الحكم لا تنفي وجود انقسام حاد في المجتمع اليمني ، بعض هذا الانقسام اشتغل عليه النظام ووسعه وأجج مفاعيله بالظلم والإقصاء والتمييز بين اليمنيين على أساس قبلي ومناطقي وشطري ومذهبي طوال فترة حكم الرئيس السابق وتحديداً في العشرين عاماً الأخيرة.
تنقسم المجتمعات الى نوعين ، الاول مجتمعات مندمجة كلياً مثل مصر، والثاني مجتمعات تعددية. والتعددية هنا نوعان ، إما انها جذرية بوجود أعراق وأديان وإثنيات ولغات مختلفة مثل سويسرا وبلجيكا. او تعددية في اطار الامة والثقافة الواحدة مثل العراق واليمن الذي تجمع افراده مشتركات اللغة والدين والتاريخ ، ولكنهم امة تعددية لأسباب جغرافية وقبلية ومذهبية ومناطقية ، وقد كانت اطروحة محمد احمد نعمان عن الاطراف المعنية تعبيراً عن ضرورة اجماع كل الاطراف على العقد الاجتماعي الذي يعبّر عن مصالحها وترضى به.
السمة الانقسامية التي برزت في العقد الاخير بعضها بسبب الاستبداد واحتكار السلطة والثروة، وبعضها يعود إلى تعددية المجتمع اليمني وتنوعه ، التعدد الذي لا يستطيع إنتاج صيغة حكم عادلة يتحول إلى أمة انقسامية خصوصاً إذا اشتغل النظام على اللعب في هذا الحقل والعزف على أوتاره.
يقال: ان الاصل هو سعي النخب والشعوب الى بناء الامة الواحدة وإزالة الانقسامات وتذويبها. غير انه في الحالات التي تتأجج فيها حالة انقسامية حادة يكون الحل بإيجاد طريقة في الحكم وبناء الدولة تتجاوز المركزية القاتلة وتمنح جميع الاطراف فرصة المشاركة ، وقد أفرزت التجارب منذ منتصف القرن الماضي حتى الآن ما يسمى بالديمقراطية التوافقية التي تتضمن الحكم من خلال ائتلاف واسع ، ونظام برلماني ، القائمة النسبية والأقاليم القطاعية ، مع ضرورة الانتباه إلى بناء الدولة في حالة مثل اليمن لأن اتباع نظام الأقاليم والنظام البرلماني في ظل عدم انجاز مؤسسة الدولة تاريخياً، وفي ظل سيادة مشاعر الكراهية والانقسام يمكن أن تتحول الى تثبيت الكراهية وغياب الدولة كأمر واقع ، بدلاً من أن تكون الديمقراطية التوافقية علاجاً لمشكلة تتحول هي نفسها إلى مشكلة إضافية.
في نهاية المطاف نتطلع إلى مؤتمر الحوار الوطني من اجل انجاز حل مزدوج ، حل يخرجنا من النفق التاريخي لهيمنة الأئمة وورثتهم من المستندين للعصبية القبلية، وفي نفس الوقت يجنبنا التفكك والتفريط بالوحدة اليمنية.