عد سقوط حلب بتفاهم روسي - تركي بات واضحاً أن الحملة العسكرية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين نجحت في تحقيق ثلاثة أهداف مهمة. حماية الأسد من السقوط، من دون ضمان بقائه في مستقبل سورية. كما نجحت في إقناع غالبية المعارضة بجناحيها العسكري والسياسي بالقبول بوقف شامل لإطلاق النار، وبالدخول في مفاوضات مع النظام للتوصل إلى مخرج سياسي. ثالثاً نجح بوتين في كسب تركيا بأن تكون شريكاً له في فرز الفصائل المعارضة من الفصائل الإرهابية، وفي بلورة مخرج سياسي للأزمة ينطلق من اتفاق مشترك لوقف النار.
وفقاً لهذا الاتفاق تصبح أنقرة راعية للمعارضة، وتضمن التزامها وقف النار، في مقابل رعاية روسيا نظام الأسد وضمان التزامه والميليشيات التي تقاتل معه الشيء نفسه. بعد استتباب وقف النار يقضي الاتفاق بانطلاق مفاوضات الحل السياسي في 23 من هذا الشهر (يناير) في آستانة، عاصمة كازاخستان برعاية روسية - تركية ومشاركة الأمم المتحدة. ومن المفترض أن مجلس الأمن الدولي أقر الاتفاق أمس السبت، بما يضفي عليه غطاء دولياً.
هكذا يبدو المشهد السوري حتى الآن. وبقدر ما فيه من الوضوح في ما يتعلق بالخطوات الإجرائية المتوقعة، إلا أنه مليء بالغموض في شأن مضمون النتائج السياسية التي يمكن أن يفضي إليها، وفي قدرة الأطراف المشاركة على الوصول إلى هذه النتائج. العقدة الرئيسة في كل ذلك هي مستقبل الرئيس السوري بشار الأسد. وهذا بحد ذاته يعكس حجم التغير الذي حصل لسورية بتضافر فعل الثورة، ورعونة رد فعل الرئيس عليها منذ يومها الأول.
كان مجرد الحديث ولو همساً عن مستقبل الأسد من المحرمات. الآن بات حديث الجميع داخل سورية وخارجها. بل إن الغالبية في سورية وخارجها لا ترى مخرجاً من الأزمة من دون خروج الرئيس، كيفما اتفق، من مستقبل السوريين. الإعلام السوري، والمسؤولون السوريون لا ينفكون عن ترديد أن الشعب السوري وحده من يملك حق تقرير مستقبل الأسد. إذا كان الأمر كذلك - وكان ينبغي أن يكون كذلك فعلاً - فلماذا استعان الرئيس بالإيرانيين، ثم بالميليشيات، ثم بالروس لحمايته والدفاع عنه؟ حجم الاستعانة هذا، وهو حجم ضخم بكل المقاييس، وعلى مدى أكثر من خمس سنوات، يكشف حجم المعارضة التي يواجهها الرئيس من بين أبناء شعبه. وإلا فالرئيس الذي يحظى بدعم غالبية الشعب لا تقوم ضده ثورة شعبية ابتداء، ولا يحتاج إلى الاستعانة بالخارج لقمعها والاستئساد عليها.
الشاهد في كل ذلك أن اتفاقاً لوقف النار في سورية بين روسيا وتركيا من دون غيرهما، وغياب النظام السوري عن الاتفاق، يحمل دلالات مربكة بالنسبة للرئيس ونظامه.
أكثر من عبر عن امتعاضه من هذه الدلالة وزير الخارجية السوري وليد المعلم، عندما قال وفق صحيفة «البعث» السورية: «نثق بالضامن الروسي لاتفاق وقف الأعمال القتالية لأنهم شركاؤنا في الحرب على الإرهاب ولا نثق بالدور التركي». لا يثق معالي الوزير بتركيا، لكنه لا يملك خيار تطبيق عدم الثقة هذه.
وعلقت يوم الخميس الماضي افتتاحية صحيفة «الثورة» السورية على إعلان تركيا عن توصلها مع روسيا إلى الاتفاق بالقول إن النظام التركي «لا يملك الأهلية لإعلان اتفاق حتى لو حصل (كذا)، ولا يقدر أصلاً على التفرد بتفاصيله...»، واختتمت بالتأكيد على أن «الحديث عن الحلول السياسية مجرد عبث إضافي... وأردوغان ورقة محروقة فقدت رصيدها السياسي وصدقيتها». لاحظ جملة «أن الحديث عن حلول سياسية مجرد عبث إضافي».
أما صحيفة «الوطن السورية» فجاء عنوان تقريرها عن التوصل إلى الاتفاق هكذا «أنقرة أعلنت، وموسكو لم تنف، وأنباء عن مسودة اتفاق لوقف النار». الغريب في هذا العنوان أن هذه الصحيفة وحدها الصحيفة الخاصة في سورية، ومملوكة لأطراف مقربة من دوائر النظام. نحن هنا أمام احتمالين لا ثالث لهما.
إما أن قيادة النظام لم تكن على اطلاع على مجريات المفاوضات التي انتهت باتفاق، وهو احتمال ضعيف. وإما أنها كانت مغلوبة على أمرها ولم يكن لها من خيار غير القبول بما يراه الراعي الروسي. لذلك اختارت هذه القيادة ترك مهمة التعامل مع الموضوع لإعلامها بهذا الأسلوب تعبيراً عن عدم قبول استبعادها من المفاوضات التي أفضت للاتفاق، وعن عدم اطمئنانها لما يمكن أن يفضي إليه لاحقاً.
وما زاد من قلق القيادة السورية أن تركيا هي الطرف الآخر في الاتفاق، وليس إيران، وما أضفاه هذا من شرعية على دور أنقرة كراع للمعارضة السورية. في مقابل ذلك وضع الاتفاق النظام السوري وقيادته تحت الرعاية الروسية تحديداً، من دون شراكة لإيران في هذا الدور.
ومصدر قلق الأسد من هذا التطور أن الاتفاق يعني أن روسيا ترى، وعلى عكس ما يراه هو ومعه إيران، أن الخيار العسكري وصل إلى حدوده بسقوط حلب، ولم يتبق من خيار آخر غير الحل السياسي كمخرج. المصدر الثاني لقلق الأسد أن الاتفاق يقلص هامش المناورة أمامه، وهو الهامش الذي اعترف أخيراً بأنه استفاد منه في إفشال الحل السياسي في مفاوضات جنيف السابقة. الآن روسيا التي أنقذته من السقوط، هي راعيته في مفاوضات حل سياسي تتبناه وتدفع باتجاه تبنيه دولياً في مجلس الأمن. لا يستطيع الأسد الاصطدام مع روسيا، ولا رفض الدور التركي وهو بمظلة روسية - دولية.
الحل السياسي المنشود يمثل مأزقاً للأسد وليس للمعارضة. لماذا؟ لأنه بطبيعته يقتضي تنازلات متبادلة من كل الأطراف. مع بداية الثورة كان الأسد يملك كل شيء، وكانت المعارضة لا تملك شيئاً تقريباً. الآن تبدلت الصورة. مقابل كسب المعارضة شرعية إقليمية ودولية تضاف لشرعيتها المحلية، فقد الأسد الكثير. أصبح ونظامه في حاجة لرعاية خارجية مثله في ذلك مثل المعارضة، بل لم يعد يملك حرية اختيار من يرعاه. التنازلات في هذه الحال ستكون من رصيده أكثر من كونها من رصيد المعارضة. كان الأسد يحاول فرض الحل العسكري تفادياً للوصول إلى ما وصلت إليه الأمور بالاتفاق التركي - الروسي. فشل إيران في حمايته، اضطره للاستعانة بروسيا.
وعلى عكس إيران، روسيا ليست دولة دينية، بل دولة كبرى تتشعب مصالحها وتتقاطع مع مصالح إقليمية ودولية. لا تستطيع الذهاب بعيداً في خيار الحل العسكري من دون أفق سياسي واضح، لأنها تعرف من تجربتها ما يمكن أن ينتهي إليه مثل هذا الخيار.
السؤال الآن: هل يكون تنحي الأسد أحد التنازلات المطلوبة في أي مرحلة من مراحل الحل السياسي المنشود؟ تردد أخيراً وجود بديل علوي يحل محل الأسد. قبل ذلك تردد الحديث عن ترك الخيار لانتخابات شعبية بضمانة وإشراف دوليين. لكن القبول بترشح الأسد في هذه الحال يعني بحد ذاته تبرئته كرئيس للدولة من مسؤولية كل ما حل بالشعب السوري من قتل، وتعذيب وتهجير، وحصار وتجويع وترويع، ومن مسؤولية تدمير غالبية سورية، واستعانته لتنفيذ كل ذلك بمقاتلين أجانب.
فرض بقاء الأسد في هذه الحال لا ينطوي على استجابة عقلانية لواقع موازين القوة أمام متطلب التزام أخلاقي بحق الشعب السوري. فموازين القوة اختلت في الواقع السوري الراهن في شكل كبير، والدليل فشل الأسد بفرض الحسم العسكري، وبروز الاتفاق الروسي - التركي نتيجة لذلك. يؤسس هذا الاتفاق لحل نهائي، لكنه بالصيغة المعلنة عنه لا يتضمن تفاصيل هذا الحل. وهذا مفهوم. لكن روسيا وتركيا، ومعهما جميع السوريين، يدركون أن نظام الأسد يريد إعادة إنتاج نفسه على رغم كل ما حصل، وعلى رغم أنه السبب الأول في قيام الثورة أصلاً. ومن ثم فإن بقاء السبب يعني مباشرة إطالة أمد الحرب، وأمد تورط روسيا وتركيا وبقية الإقليم. وهذا يتناقض رأساً مع منطق الاتفاق وأهدافه، ما يعني العودة إلى المربع الأول. ولم يتحمل السوريون كل ما فرض عليهم من تضحيات للعودة إلى المربع الأول. درس الثورة السورية واضح.