عيدروس نصر يرثي عمر الجاوي3
بقلم/ د.عبدالمنعم الشيباني
نشر منذ: 14 سنة و شهر و 16 يوماً
الأربعاء 29 سبتمبر-أيلول 2010 07:48 م

يقول عيدروس نصر في مرثيته التي يسكب عبراتها على روح الراحل عمر الجاوي :

وتطلع قبل الفجر تحشد نورهُ

تغرِّدُ جذلاناً وتعزف منشدا

وإنْ جاء سعدٌ لستَ تطلب حصَّةً

وإنْ كنتَ بين الناس أبهى وأسعدا

لأنكَ لا ترجو رصيداَ ومغنماً

ولا أنتَ من يسعى لكي يتسيَّدا

فإنْ كنتَ أوفى الناسِ قسطاً من الأذى

فإنكَ أعلاهمْ شموخاً وسؤددا

بكيتكَ حتى جرَّح الدمعُ مقلتي

ويبكي معي الأحبابُ والأهلُ والعدى

سيبكونَ دهراً في مساءٍ وبكرةٍ

وقد يذرفون الدَّمعّ سيلاً معربدا

وما كلُّ دمعٍ سال يكشف حسرةً

ولا كلُّ صوتٍ ضجَّ يحكي تنهُّدا

فقد يذرف التمساح دمعةَ نشوةٍ

وقد يطلق البوم الضجيج توعُّدا

وما أنا بالباكي عليك تصنُّعاً

فقد صرتّ عن زيف التصنع أبعدا

ولكنني أبكي مصاباً ألمّّ بي

ليحرمني كنزي ويسلبني اليدا

لقد كنت لي كنزاً وزاداً لرحلتي

ومخزن إصرارٍ وسيفاً مهندا

وأقوى من القهر احتجاجاً وحجةً

ومن صلف الأيام أقسى وأجلدا

وقد كنتَ أقوى من تسلُّط حاكمٍ

ومن عبث الأقدارِ أمضى تمرُّدا

لئن غبتَ عنَّا لست في الغيب مفرداً

وإن كنتَ بين الناس قد عشت مفردا

فمثلكَ لا يفنى وإن غابَ جسمهُ

ستبقى مدى الأجيال ذكراً مجدّدا

***

هذه هي الحلقة الثالثة من مقالة (عيدروس نصر يرثي عمر الجاوي)...في الحلقتين السابقتين قلنا أن حرف التمني( ليتّ)-الذي ينصب المبتدأ ويرفع الخبر- صار له عملاً بلاغياً وسياسياً جديداً وهو أن يعاند تمني الشعوب، فيتمنى المواطن العربي التغيير أو أن يقبض عزرائيل على حكام القهر والفساد فلا يستجاب لهذه الأماني، وعلى العكس من ذلك تُقبض أرواح الصالحين وقادة التغيير الذين أحبهم الناس..الحرف (ليتَ) للتمني يطاوع أماني الحكام ويخذل أماني الشعوب..وقلنا أن لحروف الرفع والنصب والجر وكل أدوات الإعراب حالات خاصة في اليمن حيث يبطل معها ثوابت العمل لمصلحة أنظمة الفوضى السائدة، واستشهدنا برائعة البردوني(زمان بلا نوعية) يرثي فيها إبراهيم الحمدي.. في القصيدة يمتنع الخمرُ عن الإسكار لمن أراد أنْ يهربَ من واقع القتل:

فقدتْ سُكرَها ضروعُ الدوالي *** صحوةُ الرعبِ وحدها المستطابة ْ

صحوة الرعب تطغى على خمر السُّكر في اليمن ..نقرأ في (زمان بلا نوعية) للبردوني كيف تسود الفوضى وتنقلب الموازين لمصلحة الحكام ضد الشعوب وحتى (القتل ) "يقتل نفسه" ثم يلبس ثوب الجمال والقشابة وصناعة المنجزات والمعجزات ... هل رأيتم فوضى كهذه الفوضى اليمنية في هذا الزمان الذي بلا طعم بلا شكل بلا نوعية؟.. يقول البردوني :

ليس بيني ويبن شيئٍ قرابة ْ *** عالمي غربةٌ زماني غرابة ْ

ربما جئتُ قبلُ أو بعدُ وقتي *** أو أتتْ عنه فترةٌ بالنيابة ْ

............

منتهى الصحوٍ سكرةٌ سوف تصحو *** من تغنِّي ومن ترثّيِ (حبابة ْ)؟؟!!

فقدتْ سُكرَها ضروعُ الدوالي *** صحوةُ الرعبِ وحدها المستطابة ْ

..........

يقتل القتلُ نفسَه ثم يأتي *** في ثيابٍ لها سِماتُ القشابة ْ

من هي حبابة ؟ في الأساطير اليمنية حبابة امرأة ميلاد أي كثيرة الإنجاب حتى أنه صار لها عشرات الأبناء والبنات وصار لها مثل عددهم من الأحفاد، فيأتي يومٌ يتزوج فيها أحد ابنائها موافقاً ليوم وفاة ابنٍ أو بنتٍ أو حفيد فيصيب حبابة الحيرة، هل تغني لعرس ولدها أم تبكي وترثي وفاة الآخر.. وحبابة هي مسقط رأس إبراهيم الحمدي ويوم مقتله احتار الشعب أيغني للقادم الجديد أم يبكي على الراحل الزعيم (هذه رؤية أكد عليها بشجاعة الدكتور أحمد نعيم الكراعين-سوريا- أستاذ اللغة العربية بجامعة صنعاء عام 1989..) واقع اليمن مضطرب بتقلب أحوال الدهر الذي جاء ليعلي من شأن من لا يحبهم الناس ويخطف بالموت أو القتل أرواح من أحبهم الناس...هذا الإضطراب وهذا الإختلال أفرز بكائيات ومرثيات شعرية غير مصطنعة ولكن من شدة واقع اضطراب قيم الزمان فالدموع لا تهمي والبكاء لا يبكي والخمر لا يُسكرِ والقتل يلبس ثوب القشابة والجمال...

قصيدة عيدروس نصر مرثية بكاء غير مصطنع ولكن اضطربت حروف المعنى وعجزت قواعد اللغة العربية والبلاغة والنحو أن تقنع الناس أنْ يبكوا لأنهم ألفوا التداخل بين الحقيقة والزيف والصدق والتصنع والأصلي والتقليد...

يتبع الحلقة القادمة

شاعر وناقد يمني

a.monim@gmail.com