استراتيجيات الهيمنة بين برنارد لويس وآية الله خميني
بقلم/ د. محمد جميح
نشر منذ: 4 أسابيع و يوم واحد و 10 ساعات
الخميس 10 أكتوبر-تشرين الأول 2024 06:18 م
 

كان مبدأ إضعاف منطقة الشرق الأوسط بتقسيمها إلى مكوناتها العرقية والدينية والسياسية، وضرب تلك المكونات ببعضها، كان ذلك ـ قديماً ولا يزال – وسيلة الغزاة من الشرق والغرب، للسيطرة على المنطقة التي لا تزال تعاني من السياسات الدولية الهادفة للسيطرة عليها.

في 1916 تم التوقيع على اتفاقية سايكس بيكو بين بريطانيا وفرنسا، وباتفاق مع روسيا القيصرية، لتقاسم تركة الدولة العثمانية أو «الرجل المريض» وفي العام ذاته ولد المفكر اليهودي البريطاني الأمريكي برنارد لويس الذي مات عام 2018، والذي درس تاريخ الإسلام، في مرحلة الدكتوراه، وألف العديد من الكتب عن الإسلام والعرب وتركيا، وبلور ملامح مشروعه المتكامل للسيطرة على الشرق الأوسط والعالمين العربي والإسلامي، سياسياً ومالياً وعسكرياً، بل وثقافياً، من خلال «تفتيت الشرق إلى مكوناته الدينية والمذهبية والعرقية والعشائرية» وهو المشروع الذي اعتمده الكونغرس الأمريكي علم 1983، والذي نُظر إليه على أساس أنه النسخة الثانية من اتفاقية «سايكس بيكو» التي كانت «تدبيراً غربياً خاطئاً، ولم تعد صالحة اليوم» حسب تقييم لويس.

أصبح لويس أحد كبار منظري «فلسفة استخدام القوة» و«ضرب العرب بين أعينهم بالعصا الغليظة» لأنهم «فاسدون وفوضويون» ولا يمكن تحضرهم أو إقامتهم دولاً حديثة، وأنهم «إذا تركوا لأنفسهم فسوف يشكلون موجات إرهابية تفاجئ العالم» وأنهم لا يصلحون للحضارة، ولذا لا بد من «تصدير الحضارة الغربية» لهم عن طريق «إعادة احتلالهم، وتدمير ثقافتهم الدينية» القائمة على أسس قبلية، وهي رؤية يمكن قياسها – مع الفارق – برؤية آية الله خميني القائمة على أساس «تصدير الثورة الإسلامية» انطلاقاً من عالمية الإسلام الذي يحتم تصدير تلك الثورة إلى الجوار الإقليمي، ثم العالمي، كما سنرى فيما بعد.

وبالعودة إلى المفكر برنارد لويس، فإن نجمه قد سطع بعد هجرته من بريطانيا إلى الولايات المتحدة، حيث بنى شبكة علاقات واسعة مع التيار الذي كان أبرز مؤسسيه هنري جاكسون، والذي عرف فيما بعد باسم «المحافظون الجدد» الذين لعبوا دوراً تدميرياً هائلاً، في الشرق الأوسط، مدفوعين بأفكار لويس عن ضرورة «ضرب العرب» وخاصة بعد أحداث أيلول/سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة.

وقد قام مشروع لويس على التهيئة لسلاسل من الحروب الطائفية والعرقية في اليمن والشام والعراق ومصر وتركيا والبلقان وباكستان وأفغانستان، وتقسيم المنطقة إلى دويلات صغيرة متصارعة وفق مكوناتها الدينية والإثنية والعشائرية، وذلك من أجل هدف كبير، وهو تمكين إسرائيل من قيادة الشرق الأوسط الجديد، باعتبارها طليعة الحضارة الغربية في المنطقة.

وقد وُجدت أصداء فلسفة لويس في عدد من الأعمال التنظيرية في الولايات المتحدة وإسرائيل، مثل كتاب «الشرق الأوسط الجديد» للرئيس الإسرائيلي الأسبق شيمون بيريز، الصادر عام 1992، وكتاب رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو «مكان تحت الشمس» الصادر عام 1993، كما حفّزت تلك الفلسفة وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس التي تبنت فكرة برنارد لويس عن «الفوضى الخلاقة» في العام 2005، وتأكيداتها أن تلك الفوضى أصبحت أولوية للسياسة الخارجية للولايات المتحدة في عهد جورج بوش الابن، وظهرت آثار فلسفة لويس كذلك من خلال ما طرحه الكولونيل الأمريكي المتقاعد رولف بيترز من أفكار ضمن خطة «حدود الدم» عام في 2006، وهي خطة تقسيم تشمل عدداً من الدول العربية والإسلامية، من أجل صياغة «شرق أوسط جديد» بقيادة إسرائيلية.

 

إذا كان المشروع الصهيوني اختار فلسطين لرمزيتها الدينية والعالمية، فزرع إسرائيل فيها، بهدف الهيمنة، فإن المشروع الإيراني أدرك هذه الرمزية، فجعل فلسطين غطاء سياسياً وآيديولوجياً لأهدافه في الهيمنة عبر ميليشياته الطائفية

 

وبعد أن آتت الخطط والأفكار المنبثقة عن فلسفة بيرنارد لويس أكلها بهذا الحصاد المر في المنطقة جاء دور منظري «الاتفاقات الإبراهيمية» ليقولوا بأن الصراع العربي الإسرائيلي ـ وليس الصراعات العربية البينية ـ يجب أن ينتهي ليتم التأسيس للشرق الأوسط الجديد الذي تم التخطيط له ليكون بقيادة إسرائيلية، بعد أن تم أو يتم تدمير مقدرات الشعوب العربية، وتفتيتها إلى ما نراه اليوم من مكونات طائفية وإثنية أضعفت هياكلها المؤسسية.

وفي مقابل فلسفة برنارد لويس تأتي هنا ـ وللغرض نفسه ـ فلسفة أخرى ـ لكن في ثوب إسلامي ـ تهدف لتوسيع النفوذ الإيراني، ومنافسة إسرائيل على مناطق الهيمنة في الشرق الأوسط الجديد.

يذهب آية الله الخميني في كتابه عن «الحكومة الإسلامية» إلى أن هذه الحكومة الإسلامية ليست خاصة بإيران وحدها، لأنها حكومة تعكس عالمية الإسلام، وبالتالي فإن عليها أن تعمل على «توسيع نفوذ الإسلام في العالم خارج الحدود الوطنية» عبر ما أطلق عليه «تصدير الثورة الإسلامية» وهو المبدأ المتضمن في المادة 154 من الدستور والتي تنص على «نصرة المضطهدين ضد المستكبرين في العالم» وهو البند الذي على أساسه بنت إيران كل تدخلاتها التدميرية طائفياً وعسكرياً وسياسياً واقتصاديا، وبناء عليه أسست مليشياتها المتعددة في كل من لبنان والعراق وسوريا واليمن، مع محاولات غير يائسة للتدخل في دول الخليج، ومحاولات متكررة لاختراق مصر والأردن ودول المغرب العربي، ناهيك عن التدخل الإيراني في أفريقيا، انسجاماً مع قول الخميني: «سنعمل على تصدير تجاربنا الى كل مكان في العالم» وهي التجارب التي يحاول الإيرانيون تصديرها، من خلال تسعير النزاعات الطائفية، وتقسيم العرب إلى مكوناتهم المذهبية التي تتصارع اليوم.

وإذا كان المشروع الصهيوني اختار فلسطين لرمزيتها الدينية والعالمية، فزرع إسرائيل فيها، بهدف الهيمنة، فإن المشروع الإيراني أدرك هذه الرمزية، فجعل فلسطين غطاء سياسياً وآيديولوجياً لأهدافه في الهيمنة عبر ميليشياته الطائفية، وقبل ذلك محاولات السيطرة على العراق في ثمانينيات القرن الماضي، حيث مهدت هذه السياسة الطريق لتنفيذ خطة برنارد لويس، بتفتيت الدول العربية إلى مكوناتها الطائفية، وإشعال الحروب المذهبية التي أدت إلى وضع لم تكن معه إسرائيل تحلم بما هو أفضل منه.

واليوم، وبعد أن أنهكت سياسات التدخل الإيرانية دول المنطقة، عبر أذرعها الميليشاوية، وتحت فلسفة «تصدير الثورة» و«مقاومة قوى الاستكبار العالمي» وبعد أن أتاحت تلك القوى لطهران فرصة السيطرة على عدد من البلدان العربية، عن طريق وكلاء طهران الإقليميين، يبدو أن إسرائيل ومن ورائها الغرب بدؤوا بإرسال رسائل واضحة لإيران، مفادها أن ثمرة تدخلاتها خلال العقد الأخير لن تصب في جيبها وحدها، وأن هذه التدخلات كانت مرضياً عنها إلى حدود معينة، وأن إسرائيل يجب أن تقطف الثمرة، وهو ما تراه طهران غير ممكن بعد أن أوهمها التغاضي عن تدخلها بأنها يمكن أن تبلع اللقمة وحدها، وهذا هو السبب الرئيسي للأوضاع الملتهبة حالياً، والمهيأة لمزيد من التصعيد، في الشرق الأوسط، بعد أن اختلفت أهداف المقاتلين الذين قاتلوا تحت غطاء جوي أمريكي في كل من اليمن والعراق وسوريا، وتحت العنوان الجذاب: «الحرب على الإرهاب».

تسعى إسرائيل ـ إذن ـ للهيمنة على المنطقة بمشروع تسميه «الشرق الأوسط الجديد» عبر التطبيع والسلام المتجاوز لحقوق الفلسطينيين، فيما تسعى إيران للهيمنة بمشروع تسميه «الشرق الأوسط الإسلامي» عبر «تصدير الثورة» بميليشياتها المتجاوزة لحدود العرب، في حين أن «الإسلام الإيراني» و«الحداثة الإسرائيلية» مجرد شعارين خادعين، لدولتين تقومان بما يشبه «الوكالة» لقوى دولية: شرقية وغربية، تدير صراعاتها عبر الوكلاء الإقليميين، على أرض عربية، مع غياب أي ملامح لمشروع عربي يمكن أن يملأ هذا الفراغ المريع.

وهنا يمكن القول إن إيران وإسرائيل ومن ورائهما القوى الدولية ـ شرقاً وغرباً ـ تنظران للمنطقة العربية اليوم نظرة القوى الغربية لتركة «الرجل المريض» في بداية القرن العشرين، وتعتقد تلك القوى أنه آن الأوان لوضع نسخة منقحة من اتفاقية: سايكس – بيكو التي أعادت رسم الخريطة العربية، في النصف الأول من القرن العشرين، عبر خطط وضعها ونظر لها المفكر اليهودي الأمريكي برناردي لويس منظر «تصدير الحضارة الغربية» للشرق الأوسط، والذي سعى للأهداف ذاتها التي سعى لها رجل الدين الإيراني آية الله خميني، منظر «تصدير الثورة الإسلامية» للمنطقة.