|
طوال رحلة تاريخنا العربي لم تتوقف الحرب عن دق طبولها بين كل فينة والأخرى، وكانت اليمن من الأقطار التي استطاعت بجدارة أن تحافظ على مركز الصدارة في هذا المجال ، فليس هناك ثمة فترة زمنية طويلة توقف فيها اليمنيون عن الحرب.
ذاع صيت القادة اليمنيين في الفتوحات الإسلامية على نحو يستحق الإعجاب ويدعو إلى الزهو في حين اختفت أسماءهم عن صفحات أخرى لها علاقة بالفكر والأدب والعلوم الإنسانية والتطبيقية على نحو يدعو إلى الخجل.
وتاريخنا العربي دائما ما يتحدث إلى قراءه عن فن الحرب والموت، براعة قادتها المنتصرين، خططهم وانتصاراتهم .. تأريخنا أيضا يتعمد إظهار أن الحرب يجب أن تستمر حتى مصرع قائد الطرف المهزوم أو مغادرته ونهب أمواله وسبي وتوزيع نسائهم كغنائم حرب يحصل فيها القائد على أجمل امرأة، ويتنافس البقية على ما تبقى من السبايا.
ولا ينسى تاريخنا أن ينوه أن الحرب ما قامت إلا من أجل إرساء السلام فيقدم جزء من صفحاته للحديث حول انعكاسات تلك الحروب وتأثيراتها في صناعة الحضارة والسلام في حياة تلك الشعوب .. حتى قيل أن العرب – دائماً - يتحاربون من أجل إرساء السلام! .. ومع ذلك فتأريخ العرب لا يهتم مطلقاً بعدد البشر الهائل من الذين لعبوا دور الضحية خلال كل تلك الحروب !.
في البلاد العربية عموماً القوة والدين أسهل الطرق إلى السلطة ، هذا هو المفهوم التاريخي المغروس في عقل و ثقافة الإنسان العربي والبعض يضيف القبيلة فيما يخص الحالة اليمنية على انفراد، و ليس هناك ما يستدعي غيرها يحتاج إليه الطامحون صعودا سدة الحكم.
وفي بلاد السعيدة تستخدم السلطة كل الأشياء الجميلة من أجل تحقيق كل الأشياء الغير جميلة في حياة المواطن، فتستخدم جمال القوة لترسيخ سيطرتها على مساحات الدولة وحماية قبح سلطتها وكبح جماح الطامحون .. وتستخدم جمال الدين لإدارة تلك القوة والحفاظ عليها وإعطاءها شرعية البقاء في حوزتها دون غيرها على نحو عقائدي صلب لا تهزه المتغيرات، فيضع الدين شروط الرجل الحاكم بأمر الله وحصرها في سلالة معينة أو ضمن مجتمع معين من المواطنين كما هو حاصل في كثير من المناهج والمذاهب الدينية بصورة تتنافى مع القيم السياسية والإنسانية على حد سواء، فتستخدم السلطة الدين - مستعينة برجال الدين التابعين لها - في تحديد ما يحق وما لا يحق للأفراد أن يمارسونه سياسياً تحت وصاية الله ودينه وعلى النحو الذي يسهل له الاستمرار حاكماً بأمر الله وتحت رعايته.
كما سعت مراكز السلطة في اليمن لاستيعاب القبيلة واستخدامها من خلال الزج بأبنائها ضمن الجانب العسكري بعيدا عن المساحات العلمية والأدبية بهدف امتلاك جيش قوي وتكوينه من مجموعة جيدة من الرجال الذين يحتفظون داخلهم بالكثير من القيم العربية الجميلة للقبيلة التي تعلموها على مدار سنوات طويلة من طفولتهم ضمن موروث شبه مقدس يعتز به كل مواطن يعيش داخل حدود أرض السعيدة إن جاز لي التعبير، هذا الموروث ألقيمي القبلي يغذي أفراده بالكثير من القيم الأخلاقية التي تحرم عليه النكث بالعهد والوفاء والصاحب الجيد المنطلق من القاعدة القبلية المتداولة لدى سكان القبائل.. حيث تتحدث إلينا أحد تلك الموروثات عن نفسها حين تسمعها عالية من أفواه شباب القبيلة في صباح كل عيد وفي كل مناسبة عرائسية تقام في القبيلة واصفين بطولاتهم الحربية من خلالها:
"قد أديت في سير الجنب سبعة
ثلاثة نقاء وأربعة في نصيبه
وعاد الفؤاد ما برد من لهيبة"
وسير الجنب: هو الصاحب أو رفيق السلاح!
والمقصود بالسبعة هنا أنه سوف يقوم بقتل سبعة أشخاص انتقاما وثأراً لصاحبه !
وعلى هذا النحو فالسلطة تستغل جمال شيم أبناء قبائل شمال الشمال والوسط على نحو غير جميل يضمن لها جيش مطيع يمتلك ثقافة حرب كاملة الدسم لحروب لا تنتهي ولا تتوقف لان سير الجنب (رفيق الدرب) المذكور في الموروث الشعبي أعلاه لم ولن ينتهي من استكمال الثأر الحربي على الصورة التي تعلمها كما أنه من المؤكد سوف يرحل إلى الدار الآخرة قبل استيفاء عهده ليقوم سير جنب آخر في إعادة العد من الصفر للوصول إلى العدد سبعة من جديد ثأراً لمحارب آخر .. وبمثل هؤلاء يجد الحاكم الأشخاص المناسبين للقيام بدور البطولات من أجل بقاءه ويعمل الحاكم على رفع وخفض منسوب تلك البطولات والتضحيات حسب الحاجة من خلال إضافة الصبغة الوطنية على الجدار الخارجي لها.
في واحدة فقط من مديريات شمال الشمال قتل ما يفوق الأربعمائة محارب ضمن جيش البشمركة الذي تم تكليفهم بمساندة الجيش الرسمي للقضاء على التمرد في صعدة ، اليوم كل من بقي على قيد الحياة من أولئك المحاربين ومعهم عدد كبير آخرين يقاتلون في صفوف من كانوا يقاتلونهم بضراوة كأعداء في الأمس القريب .. ولا أعتقد أن هذا الشيء مختلفاً عما يحدث في كثير من القبائل على مختلف مناطق ومحافظات اليمن.
في مطلع العام 2011 دخلت موجه جديدة على المفاهيم العربية والتي ربما تسببت في هزة تاريخية لكل الموروث السياسي العربي على مر التاريخ ؛ استطاعت الثقافة العربية الوليدة المتمثلة في الثورات السلمية أن تصيب كل التاريخ العرب في مقتل و أن تواري ثقافة الحرب والموت الثرى، كما أسقطت مفهوم استخدام السلاح والجيوش كوسيلة حتمية يجب استخدامها من قبل كل من أراد التفكير في إسقاط أي من الأنظمة المستبدة التي تظل متشبثة بالسلطة حتى موعد الرحيل إلى خزيمة.
لم تكن طريق ثورة السلام نحو العهد الجديد مزروعة بالورد ولا مظللة بالغمام، بل فمنذ بداية أيامها المبكرة وقبل أن تخطو خطواتها الأولى تكالبت عليها الآلات الحرب من كل حدب وصوب في الخارج والداخل، أبناءها – أيضا - لم يمدونها بأبسط المقومات والطاقة اللازمة لاستمرارها على قيد الحياة.
لم تمضي فترة طويلة حتى بدأ النظام القديم في العودة حاملاً معه كل مقومات الحرب وثقافة الموت من جديد معلناً الحرب على ثورة السلام من كل الاتجاهات في الحين الذي كان فيه ثوار الأمس قد استنفدوا كل طاقاتهم التي كانوا يمتلكونها إبان الثورة ولم يعد بإمكانهم الصمود أمام الموت طويلاً في ظل تساقط ثورات السلام في أقطار أخرى تحت أقدام العسكر.
هزمت ثورة السلمية في اليمن وهزمت معها ثقافة السلام في أول ظهور لها في صفحات التاريخ فشعر أبناءها أنه من الظلم القبول بالعودة إلى براثن الماضي الكئيب، وهاهم اليوم ومن أجل السلام يحملون السلاح في وجه أعداء السلام وأنصار الموت.
في الأحد 20 ديسمبر-كانون الأول 2015 03:19:03 م