دقت ساعة المساواة .. لا تراجع
بقلم/ عبدالله الثلايا
نشر منذ: 13 سنة و 6 أشهر و يومين
الأربعاء 04 مايو 2011 03:51 م

أضحى الشعب اليمني كنسر بدأ في التماثل للشفاء ونفض عنه الغبار الذي سببه فساد العقود السابقة، كما أن يشبه كمن يُبعث من الحطام الذي آل إليه في العقود الطويلة الماضية على يد نظام سياسي واجتماعي قاهر وقهري، ويتقدم على مسرح التاريخ طامحاً إلى امتلاك مصيره وصنع قراره بيده بعد أن حبط أمله في ايجاد قدوة واحدة يمكن أن يثق بها أوإصلاحات جادة أو حتى حوار ملتزم. ويعني امتلاك المصير استعادة الحق الأصلي في التصرف والسيادة التي نازعته عليها، قبل أن تنتزعها منها، النخبة الحاكمة الفاسدة في سياق تاريخي استثنائي كسرت فيه إرادة الشعب اليمني، ونجحت فيه قبلها أندونيسيا والفلبين وتونس ومصر في استتباع النخب الحاكمة واستخدام أفضلها للعمل على أجندتها الخاصة.

هذا أيضا هو ما حدث في بعض دول في أوروبا الشرقية في بداية تسعينيات القرن الماضي وفي أميركا اللاتينية وبعض الدول الأفريقية قبل ذلك في السبعينيات وأصبحت اقتصاداتها اليوم قوة يحسب لها احسابها. لكنها ليست كذلك فحسب، ولا تقتصر نتائج ثوراتها على عملية إطلاق الحريات لشعب انتزعت منه.. إنها الثورة العربية الأولى التي قامت بسبب انعدام لقمة الخبز وايجاد تنمية اجتماعية حقيقية. انها أكثر شبها بالثورة الفرنسية التي لم تكن أيضا مجرد إطلاق للحريات أو تغيير نظام سياسي دكتاتوري بنظام ديمقراطي آخر، وإنما كانت ضد حاكم واحد استهتر بأمته المليونية ونصحهم بأكل الحلويات إن لم يجدوا الخبز و أصبح التخلص منه إطارا لولادة جلد جديد لأمة انبعثت من هشيم تاريخ رجال وطوائف وقبائل وطبقات متنابذة ينكر بعضها بعضا.

ومن حيث هي كذلك، كانت في الوقت نفسه ثورة نفسية وأخلاقية وفكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية تستبطن بالضرورة انقلابا جيوستراتيجيا أيضا. فما حدث في هذه البلاد في ثلث القرن الماضي على يد النخبة العائلية والفئوية التي استلمت السلطة في ظروف تاريخية وبوسائل استثنائية، هو الرجوع بالأمة مثل غيرها في بعض الأقطار العربية الى ما قبل ستينات القرن الماضي وإستعادة الملكية المطلقة والتعسفية فيها كما لم يحصل في أي منطقة من مناطق العالم الأخرى، فوضعت الحالة اليمنية بالفعل في حالة شاذة معاكسة لاتجاه حركة التاريخ.

هي إذن في خلاصة الأمر ثورة سياسية عميقة أعادت تشكيل هذا الشعب الصابر الذي صار خلال العقود الماضية في حكم الرعايا والأتباع والموالي المملوكين للسيد والمنقسمين والمتنازعين والمهمشين بل والموقع بين بعضهم البعض واليائسين من مصيرهم ومستقبلهم، والمحتقرين لأنفسهم والمنخلعين عن ذواتهم بسبب عمق المهانة والبطالة والإحباط، وصهرها في أتون الحركة الاحتجاجية والثورة المستمرة على أسياده الزائفين، وتحول إلى أمة محترمة يوحدها التفاهم والعمل المشترك والأمل الجامع في أن يكون لها قوتها الخاصة في تحكم خادمها (الحاكم) بزمام أمورها وثرواتها.

ففي هذه الثورة ومن خلالها اكتشفت هذه الأمة التي طالما دُفعت إلى الشك في نفسها وفي قيمها وقيمتها، اكتشفت حقيقة وحدتها وقدراتها ووقعّت دون أن يستدعي ذلك أي مفاوضات مسبقة أو حوارات سابقة كما اعتادت، على عقدها الوطني الجديد: عهد الولاء للأمة والكرامة والحرية، تماما كما كانت الثورة الفرنسية عام 1789 قد أسست لعهد الديمقراطية الغربية الجديد بشعارات تحولت في ما بعد إلى نموذج لبرنامج ثورات جميع الشعوب الغربية وحتى الشرقية الديمقراطية تلخصت في قيم "الحرية والمساواة والإخاء".

وحيث عمل الحاكم على توحيد الأرض فقط، فلقد نجح الشعب بأسره وبدون تخطيط مسبق على توحيد قلبه وعقله والانصهار الحقيقي لأعضاء جسده الذي كان ملوناً ومثخنا في أغلبه بجراح الفرقة والجوع والمهانة فلقد أصبحت هذه الثورة بالتأكيد ثورة المساواة وإلغاء ثقافة تقديس من ينبغي أن يكون هو خادمهم كما وصفها العديد من المحللين. لقد جسد هذا الشعب الصابر إرادته وما تعنيه الديمقراطية من تجاوز نظام السلطة المطلقة أو أشكال الحكم الدكتاتورية، وإقامة نظم سياسية تقوم على فعالية مشاركة جميع الأفراد في القرارات العامة عبر ممثلين ينتخبونهم بحرية حقيقية.

وأقصد بالملكية المطلقة هنا انكار حقوق الشعب في المشاركة في تقرير الشؤون العامة، وتحويله إلى شعب قاصر وخالي من القدوة الحسنة، وتحويل البلد إلى ما يشبه الإقطاعية التي يتحكم فيها فرد وأبنائه ويفرضون سيطرتهم عبر زرع الفتن والفساد في نسيجه العام ويسطون على جميع الحقوق ويتعاملون مع البلاد كما لو كانت ملكية خاصة لهم، ولهم عليها حق التصرف الكامل، لهم ولأبنائهم وأقربائهم، كما أنهم يمنون على تلك الشعوب أنها لا تزال على قيد الحياه ويعتبرون ذلك انجازاً بينما هم يحولونهم بالجملة إلى عبيد وأتباع.

وربما كانت طرفة توريث الأبناء الحكم من قبل الآباء في هذا الشعب الحر هي أكبر مؤشر على نوعية العلاقة التي نشأت بين أصحاب الحكم وبين الأرض والشعب، وكان من نتيجتها تصفية الإرث الفكري والسياسي الوطني أو العميق الذي تراكم منذ ثلث قرن بأسره وعزز الشعور بوجود شعب يصعب حكمه ووذلك لغرض استخدامه لشفط أمواله والمانحين خصوصاً أن الحاكم ظهر بعد الانتصار على الملكية والاستعمار ونيل الاستقلال، ثم في مرحلة ثانية، الثورة الوطنية التي تفجرت بعدئذ بهدف تعميق أسس الاستقلال الاقتصادي والاجتماعي ودمج الأرياف في الحياة العامة، وقادتها الحركة القومية اليمنية، والناصرية منها بشكل خاص.

ونجم عن انحطاط نموذج سيادة القانون والسلطة في اليمن تدمير منظم للنسيج الوطني، وقتل نواة الوطنية الخالصة التي ولدت في أتون الصراع ضد الفردية والاستعمار والهيمنة الأجنبية، وحلت محلها السلطة الشخصية المستندة إلى الولاء للفرد والحزب الواحد أو العشيرة الصغيرة محل الوطن وسلطة القانون، وفرغت مؤسسات الدولة جميعا من مضمونها، واحتلت الجماعات المنتفعة ذات الأصول العشائرية واستعمرت مؤسساتها وطردت أي أثر لروح الوطنية الخالصة والثقة بالقانون فيها، وتحولت الجيوش إلى مليشيات تأتمر بأوامر الفرد الحاكم وتخدم مصالحها على جثث ملايين الفقراء، وأخضعت نظم التعليم لحاجات تعزيز سيطرة هذا الحاكم وهيمنته، ووظفت المعارضة السياسية ذاتها -بعد عمليات إخضاع وإذلال وتدجين طويلة ومتواصلة- في خدمة السلطة شبه الإقطاعية الجديدة، وحيل بين الأفراد وإمكانية التواصل والتعارف والتفاهم والعمل المشترك والتعبير عن الرأي أو المصالح الخاصة، ناهيك عن التنظيم والتظاهر والاحتجاج.

تميز هذا النظام بقيامه على الترويج بتمتع شعبه بالتعددية وحرية التعبير وهو من أباح اللاأمن الدائم في كافة المناطق والتهديد الممنهج الذي دائماً ما يتزامن مع الحضور الشامل لأجهزة الأمن أو بالأحرى "الخوف" والمخابرات التي تفننت و أصبحت متعددة يستهدف كثير منها حرية التعبير واستخدام العنف النفسي والمادي معا، والقطيعة مع العالم الخارجي علمياً وفكريا وماديا، وسن قوانين الرقابة والتقييد على ما يتعلق بالاتصالات الحديثة والقديمة، وكسر حلقات التواصل الاجتماعي والثقافي وبما يتعلق بما نسميه اليوم منظمات المجتمع المدني، وتجنيد قسم كبير من النخب المثقفة والاعلامية والأكاديمية لبث أيدولوجية القهر الذاتي التي تقوم على تغذية مشاعر كراهية واحتقار الذات والتشجيع على لوم المجتمع في القضايا المتصلة بنتيجة فشل أداء الحكومة والانتقاص من قدر الحضارة اليمنية وتشويه التاريخ وتسويد الثقافة وتقزيم الإنسان وقدراته ووجود الكوادر النزيهة والمقتدرة فيه بل والتشكيك في تاريخ عظماء اليمن ومقدرتهم العقلية على تمثل قيم الحضارة الحديثة أو معانقة القيم المدنية، وتكبيلهم بمشاعر الفشل والعجز واللافاعلية. كما أدمن هذا النظام على توجيه الدراسة التاريخية والاجتماعية نحو ميادين لا هدف منها سوى إفقاد الفرد الثقة بنفسه ومقدرة مجتمعاته على الانخراط في العصر، مثل ما اعتدنا على قراءته عن الجروح النرجسية وتجاهل منجزات من سبق من الحكام وزرع الايمان بسوء المستقبل والانطواء على النفس واستعداء المعارض وتفضيل سيادة اليهود أو النصارى عليه، والكثير مما حفلت به المكتبة اليمنية في العقود الثلاثة الماضية. في هذا العالم الاجتماعي الجديد الذي ساهم في نشأته واستمراره الطغاة والأجهزة الأمنية المسلحة بصنوف الأمكانات والمتحكمون بحياة الناس الشرهون والمثقفون والدعاة المحبطون والناقمون أو المستفيدون، انحلت جميع العرى الاجتماعية، وقضي على أي أثر لروح المشاركة العامة والثقة بأبناء البلد والإرادة العامة لكافة الشعب.

وآثر هذا النظام الضعيف على ايجاد شعب غير أممي وإضعاف نسيج المجتمع القوي.. ليطمح في نهاية المطاف إلى انتاج هشيم من الأفراد الذين يتعامل معهم النظام كزبائن، يجازيهم أو يعاقبهم حسب ولائهم له أو ابتعادهم عنه. وبمقدار ما فقد المجتمع من مرجعياته الثقافية والسياسية والقانونية، وقتل فيه معنى الإنسانية والاخلاص لمعنى الوطنية، أصبح أفراده يتعاملون في ما بينهم أيضا كزبائن، يشترون ولاء بعضهم حتى داخل الأسرة الواحدة، ويبيعون بعضهم ويشترون بعضهم كما يبيعهم النظام ويشتريهم، إلا أن الثورة الشابة كانت كصيحة البعث الجديد الذي ينادي الضمير للرجوع الى قيم الايمان والحكمة اليمانية، وإلى القيم التي مكنت الأفراد إلى أن يكونوا أول من بنى سد عظيم في الكون ويكونوا رواد رأس المال الاجتماعي الذي يضع كافة ثقله على أفراده في تطويره وتعليم باقي الأمم على أسس الشورى والحكمة اللازمة كعناصر لاغنى عنها في الحكم.

في ذات السياق، تشكل استعادة الشعوب لسيادتها وحقها في تقرير مصيرها من يد الطغاة والطغم التي حولتها إلى رعاع حتى تتحول هي إلى ملوك وسلاطين وأسياد السلطة والمال والجاه، إطارا لاستعادة الوجود كأمة وشعب ومجتمع وجماعة حية، وفي السياق نفسه إطارا لاستعادة الملكية على الأوطان التي انتزعت شعبها وثروتها وحولت إلى إقطاعيات "جمهورية". وهي تنطوي بالضرورة على ثورة أخلاقية واجتماعية بالمعنى العميق للكلمة.

فكان أول أبعاد هذه الثورة التاريخية هو من دون شك قلب الطاولة على التوازنات السياسية المختلة القائمة، بحيث يصبح عاليها سافلها والعكس. فقد انقلبت الآية وأضحى الشعب منذ الآن سيد الموقف بعدما كانت السيادة قبل ذلك للنخبة الحاكمة المسلحة بالأموال وكافة امكانات الجيش العتيد وأجهزة الأمن والمخابرات. والشعب هو الذي يقود الآن اللعبة السياسية ويحدد برنامج عمل الحكومة وجدول أعمالها.

ولأول مرة في تاريخ اليمن يتعرف الشعب على غير ميعاد على نفسه، ويتصرف بالفعل كمصدر للسلطات، ولا يتضرع إلى الحاكم المماطل أو يستجديه احترام حقوقه، كما لا يتطلع إلى الدول الأجنبية لاستجداء بيان الإدانة أو الشجب أو المساعدة، وإنما يعتمد على نفسه ويحرص على عدم السماح لأي أطراف داخلية كانت أو خارجية أن تنتقص من قدره وسيادته. ولأول مرة تجد النخبة الحاكمة ذاتها في وضعية التبعية لإرادة الشعب. ولعل أفضل ما يعبر عن ذلك هذا الشعار الذي انتشر أيضا كالثورة في جميع أصقاع العالم العربي ومنها اليمن كشعار رئيسي ودائم "الشعب يريد".

لكن في ما وراء هذا الانقلاب التاريخي الذي نشأ من إعادة تعريف العلاقة أو تحديدها بين الشعب والنخبة الحاكمة، أو بين السلطة والجمهور، هناك ثورة أخلاقية أعمق من ذلك تتعلق بإعادة تعريف العلاقة بين الفرد والفرد في إطار هذه السلطة التي يملك الشعب زمامها ويشكل مصدرها. ويعني الانقلاب هنا الانتقال من تعريف الناس أو تصورهم لأنفسهم في ما يتعلق بالعلاقات بين بعضهم البعض، كزبائن وأتباع وحثالات وأزلام، داخل الأحزاب وخارجها، في وسط النخب الحاكمة وداخل صفوف الشعب والمعارضة معا، إلى تعريفهم كمواطنين. وجوهر المواطنة الاعتراف بالمساواة في إطار القانون أولا ثم على المستوى الفكري والأخلاقي. ولا مساواة من دون الحرية التي تشكل جوهر المواطنة كحقيقة سياسية ومسؤولية عمومية.

ومن منطلق المسؤولية التي تؤسسها الحرية والمساواة ينبع التكافل الاجتماعي الضامن لإعادة إنتاج علاقة المواطنة الحقة وأي إلغاء للحريات والمساواة أو انتقاص منها يهدد نسيج الأمة ووحدة إرادتها ووجودها. في هذا الإطار الذي نشأت الأمة فيه، أي روح المواطنة، عبر التضامن النشط الذي ما كان للثورة أن تنتصر وتحقق أهدافها من دونه، برزت القيم الشابة التي صقلت الأفراد وأعادت تربيتهم في لحظة واحدة، اللحظة التأسيسية المنبثقة في زمن الثورة الانعتاقية الماضية الآن في طريقها الصامد لإعادة تشكيل القيم والعلاقات الاجتماعية على أنقاض ثقافة الاستتباع الفردي والمحسوبية لعناصر حاكمة.

لقد عادت الأمور إلى مجاريها الطبيعية، فلم تلغ العائلية ولا الانتماءات الطائفية والقبلية، ولكنها عادت إلى حجمها الطبيعي أمام حجم الوطن وأمام صعود مشاعر الانتماء الوطني وهوية المصالح العامة والقيم الاجتماعية. فوجدنا الناس يتصرفون بعفوية وبساطة كأعضاء في مجتمع أو شعب واحد، يدافع كل فرد عن الآخر ويضحي من أجله، كما شاهدنا إلغاء الأفراد والجماعات مصالحها الخاصة والزمنية والسمو إلى مستوى المبادئ المحركة والملهمة، فذابت التمايزات والتناقضات الدينية وغير الدينية والحساسيات الطائفية والقبلية، وركب الجميع موجة الانعتاق من ذل الجوع والخوف والفساد الذي دمر وحدتهم الاجتماعية والوطنية.

لقد ولدت الأمة الحرة من رحم تلك النواة الشبابية المحدودة التي نجحت في التحرر من نظام العبودية وملحقاته الثقافية والسياسية والاجتماعية، وتعامل فيها كل فرد مع ذاته كفرد حر ومسؤول عن غيره، ومع الاخرين كأفراد أحرار متساوين، بصرف النظر عن أصولهم وأفكارهم واعتقاداتهم.

لم يجمع بين هؤلاء كافة لم يكن العقيدة الواحدة ولا الأصل الواحد ولا الدين الواحد، وإنما عدم التحمل والإرادة على العيش بكرامة وحرية لمعانقة أفق القيم الإنسانية، والذي لا يمكن لفرد أن يحترم فيه ذاته من دون أن يحترم غيره، ولا أن يضفي الشرعية على حقوقه -وأولها الحرية- من دون أن يعترف بشرعية حقوق الآخر، وبالتالي مساواته معه، وتقاسمه مع أعضاء مجتمعه جميعا حياة الكرامة والمسؤولية.

لم يكن طبيعياً أن تخرج ثورة التكوين الجديد للشعب أو انبعاثه كمجتمع من المواطنين الأحرار والمتساوين من رحم تلك البؤر السياسية والثقافية والاجتماعية التي نشأت في ظل العلاقات السلطوية وترعرعت في ثقافة الانعدام السياسي والأخلاقي، وإنما في وسط أجيال شابة نظرت إلى مستقبلها المهدد و أبت حياة الذل والمهانة والاستتباع ولم تتعامل معها، وبقت متحررة من تجاربهم السلبية الفقيرة، ومن القيود الذاتية المفروضة على العقل والمانعة له من معانقة مسايرة قرينه في العالم. فمن الكرم الذي يحرك روح الشباب في كل زمان ومكان ويجعل منهم الأسرع إلى التضحية ونكران الذات، ومن روح التحرر الفطري الذي يسكن أجيالا لم تلوثها النزاعات الفكرية المديدة وتمزقها الحساسيات المذهبية القديمة ستولد ثورة الكرامة والأخوة اليمنية. وهي في الواقع وطنية يمنية قديمة جديدة، أي مشروع أمة قديمة ستولد حالاً من وراء الحدود الجغرافية وعبرها، وتجمع بين اليمن أرضاً وانساناً من دون استثناء وتوحدهم من جديد حول مبادئ وقيم أساسية ستشكل هي المؤشر المرجعي في تعامل الأفراد مع بعضهم بعضا، وفي تعاملهم مع النخبة الحاكمة والسلطات السياسية الجديدة، وتشكل بالتالي العقد الاجتماعي الوطني الجديد. انها وطنية لا يتناقض فيها القُطري والقومي، وهما يتكاملان لبعضهما بمقدار ما يعزز تحرر الشعب اليمني من نظام الإذلال والقهر والعبودية والجوع تحرر الشعب الآخر، ويزيد من قدرته على مقاومة الضغوط الداخلية والخارجية، كما لا تنفي فيه ممارسة الحريات الفردية الحقوق الجماعية، سواء تجسدت هذه الحقوق في تأكيد تعاضد الجميع في مواجهة الفقر والجوع، أو في تعاونهم للحفاظ على السيادة والاستقلال في مواجهة الضغوط الأجنبية.

وهنا تتكامل الأجندة الديمقراطية مع الأجندة الوطنية والأجندة الاجتماعية وتنشئ نموذج لنظام مجتمعي وإقليمي جديد يشكل الالتزام بالعقد الاجتماعي الوطني الجديد، عهد الكرامة والمساواة، وتحقيق أهدافه وإنجاحه والفوز فيه، وهذا هو أساسَ وحدة مشاعر اليمنيين اليوم وغاياتهم ومحور اتفاقهم، وقريبا أساس عقدهم الاجتماعي الجديد لاتحادهم كافة، داخل كل قطر من حولنا وبعيدا عنا.

ويعني هذا البرنامج الذي يؤسس لوطنية يمنية وأمة جديدة أنه لا يجوز بعد اليوم أن يقبل اليمني بأن يكون هناك في بلادنا من يجوع أو من لا يتمكن من تأمين الحد الأدنى للحياة كالتزام جماعي وأخلاقي وليس كسياسة حكومية فقط. وهو ما يساوي في الأخلاقيات القديمة قيم الإخاء والتكافل والتضامن كحق طبيعي للأضعف وواجب على الأقدر، والذي لا يستقيم من دونه بناء نسيج اجتماعي حي. وتعني الكرامة أن احترام كل فرد -بصرف النظر عن أصله ووضعه الاجتماعي- واجب وطني، وأنه لا يجوز قبول الذل أو التعرض للإذلال أو الانتقاص من الكرامة أو الحقوق او ممارسة أي أشكال تحط الكرامة الإنسانية تجاه أحد، سواءً كانوا أفرادا أو جماعات مدنية. أن أساس هذا الاحترام للإنسان هو مساواة الجميع برغم اختلاف البشر والأفراد في اللون أو الجنس أو المذهب أو الفكر الثقافي أو السياسي.

أخيراً تعني المساواة أولاً تفعيل السياسات والقضاء القاضية بتعزيزها وحمايتها والاعتراف بحق أي فرد في المشاركة المتساوية مع غيره في النشاطات العامة السياسية وغير السياسية، كما تعني كفالة تأمين ممارسة هذا الحق للجميع من دون تمييز، وأن أي انتهاك لهذا الحق والحريات المدنية والسياسية والاجتماعية المرتبطة به هو انتهاك لحق الجماعة والمجتمع وليس لحق الضحية فحسب، وتهديد للعقد الاجتماعي الوطني وخيانة للمبادئ التي قامت على أساسها وحدة المجتمع والشعب.

من هنا، في ما وراء مظاهر التحرر السياسية البارزة اليوم، تشكل ثورة اليمن مرجلا عظيما يقوم على إعادة صهر الأمة اليمنية بأكملها التي شوهها طغيان المصلحة الضيقة والفساد، وحولها إلى الشكوك بقوة وقدرات أبناءها، وعمل على إعادة صياغتها إلى قالب إنساني واجتماعي جديد، وصقلها بالقيم والمبادئ والمثل العليا التي انتزعت منها أو فرض عليها الانخلاع عنها، حتى تتحول إلى ما يحتاج إليه الطاغية من انحطاط، ولتتمكن الأمة من وضع نفسها في موضع المبدأ الأخلاقي الملهم والروح المحركة والعاصفة المهدمة لأساس الظلم والطغيان الجامعة لهشيم المجتمع وركامه.