|
لم يكشف الربيع العربي، وبخاصة في سورية والعراق، جديداً تماماً في ما يتعلق بموقف «القوميين واليساريين» العرب، لكنه فضح هذا الموقف بشكل غير مسبوق. موقف هؤلاء من إيران يقدم نموذجاً عملياً أمثلته كثيرة. دونك مثلاً موقف الرئيس السوري بشار الأسد، وهو الأمين العام لـ «حزب البعث العربي الاشتراكي» في «القطر» السوري. منذ اليوم الأول لتوليه السلطة عمل الرئيس على تقوية علاقته بإيران، وأعطى هذه العلاقة أولوية على علاقاته العربية. يقال إنه فعل ذلك لأنه لم يعد مطمئناً لدعم «إخوانه» العرب، وبخاصة بعد الغزو الأميركي للعراق.
تضاعفت حاجة الأسد إلى إيران بعد وصول موجة الربيع العربي إلى سورية. وكانت الاستعانة بإيران عسكرياً ومالياً وسياسياً لمواجهة الثورة منذ يومها الأول. لم يستعن الأمين العام لحزب «البعث العربي» بأي دولة عربية، بما في ذلك العراق وهو تحت النفوذ الإيراني (بدأت الاستعانة بالميليشيات العراقية بعد صيف 2014 عندما استولت «داعش» على مدينة الموصل). الشاهد هنا أن رئيس «القطر» السوري وهو يعمل بشعار الحزب «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»، لم يكن في وارد توحيد شعبه والتواصل معه بعد الزلزال. كانت أولويته العلاقة مع إيران. وانتهى الأمر به أن أعاد سورية مسرحاً لصراعات إقليمية ودولية، تعج بمختلف الجيوش والدول والميليشيات والأحزاب، وأعاد احتمال تقسيم سورية من جديد.
يمثل الأسد نموذجاً لطبقة سياسية تمسك بالقرار داخل سورية وخارجها. هناك الطبقة السياسية التي تحكم العراق منذ سقوط النظام السابق على يد الأميركيين. إيران هي القاسم المشترك بين «القطرين» السوري والعراقي. ثم هناك موقف المثقفين الذين يحسبون أنفسهم على التيارين القومي واليساري. وأمثلة هؤلاء كثيرة ينتمي أغلبها إلى ما يعرف عربياً بفسطاط «الممانعة»، وهو فسطاط يعتمد على إيران وحساباتها، وليس على «الوطن العربي» وهمومه. سأتفادى إعطاء أسماء هنا حتى لا يأخذ الحديث طابعاً شخصياً. خذ مثلاً كاتب يعتبر نفسه قومياً حتى العظم، وينتمي بثقافته ومفرداته إلى مرحلة ستينات القرن الماضي. كان رئيس تحرير لصحيفة اضطرت إلى التوقف. منذ أن انفجر الربيع العربي كانت كل مقالات هذا الكاتب تقريباً تعبر عن خوف متمكن من أن يؤدي هذا الربيع إلى تنحية روابط الهوية العربية لمصلحة الإسلام السياسي. في الوقت ذاته، وبتأثير وهج الثورات، لم يتردد في الاعتراف بأنه ليس «في الأرض العربية من أدنى مشرقها إلى أقصى مغربها نظام يستطيع الادّعاء أن ممارساته مطابقة للشعارات التي يرفعها، لا فرق بين جمهوري وملكي وجماهيري وسلطاني، ويساري اشتراكي ثوري، ويميني رجعي إمبريالي»، وهو اعتراف «للمراوغة» فرضته ظروف الثورة، أكثر منه قناعة واعية وراسخة، لأن الكاتب نفسه يعاني من ظاهرة عدم التطابق هذه. مع الجملة السابقة يتركز هاجسه على ما يسميه بـ «الملكيات المذهبة» بالنفط. وهو تعبير هجائي بصيغة حداثية لفكرة قديمة لـ«عروبيي» الستينات عن الملكيات الرجعية. يتكامل مع ذلك أنه مع خوفه على الهوية القومية العربية، تغيب إيران ودورها التخريبي المناهض للعروبة عن كل مقالاته تقريباً. كأن هذا «العروبي المعتق» لا يرى بحدقته القومية أي وجود أو دور لإيران والميليشيات الشيعية التابعة في ما يحدث في المنطقة قبل وأثناء الربيع العربي، وبخاصة في العراق وسورية.
مثال آخر مختلف لأستاذ جامعي مصري محترم في العلوم السياسية وينتمي إلى التيار الناصري، يشترك مع بقية القوميين العرب في تغييب إيران ودورها عن كتاباته، لا يريد كما يبدو تحميلها أي مسؤولية في الحرب الأهلية في كل من العراق وسورية، ولا يريد تبرئتها تماماً، وموقفه مرتبك. يتفادى هذا الأكاديمي أيضاً التركيز على الدور السعودي، ربما من باب تحقيق التوازن في موقفه من الرياض (العاصمة العربية) وطهران (العاصمة غير العربية). كتب قبل سنوات مقالة في صحيفة «المصري اليوم» يعترض فيها على زيارة الرئيس السابق محمد مرسي للسعودية في صيف 2012، وذلك باعتبارها الزيارة الأولى له خارج مصر. قدم مبررات رفضه، وكان أغربها وأكثرها تناقضاً مع خطه السياسي قوله: «كما كنت أفضل ألا يزور الرئيس المصري السعودية قبل أن تكون مصر استعادت علاقتها الدبلوماسية الكاملة مع إيران». هكذا يرهن كاتب ناصري العلاقة بين دولتين عربيتين للعلاقة مع دولة غير عربية وتلعب دوراً مناهضاً للعروبة التي يؤمن بها.
يقال أحياناً إن تفسير مثل هذه المواقف الصارخة في تناقضاتها يكمن في أن أصحابها أسرى حال كراهية نفسية مترسبة لديهم تجاه السعودية على خلفية الصراع السعودي المصري إبان ما كان يعرف بالحرب العربية الباردة في ستينات القرن الماضي، وإذا كان هذا صحيحاً، وهو احتمال وارد جداً، فإنه يعبر في أحسن الأحوال عن سذاجة سياسية وعن هشاشة الرؤية القومية قبل أي شيء آخر. ومع أن هذا عامل مشترك، إلا أنه لا يعني أن القوميين العرب كتلة واحدة، فبعضهم حين يتفادى اتخاذ موقف نقدي من إيران، إنما يفعل ذلك تفادياً لأن يؤخذ هذا على أنه تأييد للسعودية، واعتراف بأنها الطرف العربي الذي يقود المواجهة مع إيران في المنطقة. كان بإمكان هؤلاء، بالمعيار القومي، إعلان رفضهم الدور الإيراني وتوظيفه الطائفية وتحالف الأقليات لإعادة تأسيس السلطة في سورية والعراق واليمن، بما يشكل تهديداً للدولة الوطنية العربية، ولفكرة القومية العربية. في الوقت ذاته، كان بإمكانهم عدم السماح بتجيير هذا الموقف لمصلحة السعودية إذا كانوا يرون ذلك، لكنهم لم ولن يفعلوا لأن فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه.
البعض الآخر يجمعون الانتهازية السياسية إلى النفاق القومي. لا يمكن اتهام هؤلاء بالسذاجة، لأنهم يتخذون القومية لبوساً لشيء آخر. حزب البعث السوري بقيادة الأسد، وأغلب مثقفي «الممانعة» في الشام خير معبر عن ذلك. بالنسبة إلى هؤلاء، الانتماء إلى حزب البعث ليس تماماً انتماء إلى أيديولوجيا القومية العربية كما يقولون بها، ولا للفكر الاشتراكي، هو غطاء للبحث عن مساواة ليست طبقية، بل مذهبية تكرس المذهبية بما يسمح بتحالف الأقليات أمام الأغلبية السنية في سورية، ثم على مستوى العالم العربي. أما في عراق ما بعد الاحتلال الأميركي، حيث لا أغلبية سنية، بل كما يقال أغلبية شيعية، فهناك طائفية معلنة بشكل سافر لا تأخذ بفكرة تحالف الأقليات بعد.
المدهش أن كل هذا حصل ويحصل للعالم العربي بدعم وتشجيع معلن من إيران، وبعد ضجيج قومي صم الآذان ولم يفرض نفسه على الجميع كإشكال مقلق. يا ترى كيف؟ ولماذا؟
تضاعفت حاجة الأسد إلى إيران بعد وصول موجة الربيع العربي إلى سورية. وكانت الاستعانة بإيران عسكرياً ومالياً وسياسياً لمواجهة الثورة منذ يومها الأول. لم يستعن الأمين العام لحزب «البعث العربي» بأي دولة عربية، بما في ذلك العراق وهو تحت النفوذ الإيراني (بدأت الاستعانة بالميليشيات العراقية بعد صيف 2014 عندما استولت «داعش» على مدينة الموصل). الشاهد هنا أن رئيس «القطر» السوري وهو يعمل بشعار الحزب «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»، لم يكن في وارد توحيد شعبه والتواصل معه بعد الزلزال. كانت أولويته العلاقة مع إيران. وانتهى الأمر به أن أعاد سورية مسرحاً لصراعات إقليمية ودولية، تعج بمختلف الجيوش والدول والميليشيات والأحزاب، وأعاد احتمال تقسيم سورية من جديد.
يمثل الأسد نموذجاً لطبقة سياسية تمسك بالقرار داخل سورية وخارجها. هناك الطبقة السياسية التي تحكم العراق منذ سقوط النظام السابق على يد الأميركيين. إيران هي القاسم المشترك بين «القطرين» السوري والعراقي. ثم هناك موقف المثقفين الذين يحسبون أنفسهم على التيارين القومي واليساري. وأمثلة هؤلاء كثيرة ينتمي أغلبها إلى ما يعرف عربياً بفسطاط «الممانعة»، وهو فسطاط يعتمد على إيران وحساباتها، وليس على «الوطن العربي» وهمومه. سأتفادى إعطاء أسماء هنا حتى لا يأخذ الحديث طابعاً شخصياً. خذ مثلاً كاتب يعتبر نفسه قومياً حتى العظم، وينتمي بثقافته ومفرداته إلى مرحلة ستينات القرن الماضي. كان رئيس تحرير لصحيفة اضطرت إلى التوقف. منذ أن انفجر الربيع العربي كانت كل مقالات هذا الكاتب تقريباً تعبر عن خوف متمكن من أن يؤدي هذا الربيع إلى تنحية روابط الهوية العربية لمصلحة الإسلام السياسي. في الوقت ذاته، وبتأثير وهج الثورات، لم يتردد في الاعتراف بأنه ليس «في الأرض العربية من أدنى مشرقها إلى أقصى مغربها نظام يستطيع الادّعاء أن ممارساته مطابقة للشعارات التي يرفعها، لا فرق بين جمهوري وملكي وجماهيري وسلطاني، ويساري اشتراكي ثوري، ويميني رجعي إمبريالي»، وهو اعتراف «للمراوغة» فرضته ظروف الثورة، أكثر منه قناعة واعية وراسخة، لأن الكاتب نفسه يعاني من ظاهرة عدم التطابق هذه. مع الجملة السابقة يتركز هاجسه على ما يسميه بـ «الملكيات المذهبة» بالنفط. وهو تعبير هجائي بصيغة حداثية لفكرة قديمة لـ«عروبيي» الستينات عن الملكيات الرجعية. يتكامل مع ذلك أنه مع خوفه على الهوية القومية العربية، تغيب إيران ودورها التخريبي المناهض للعروبة عن كل مقالاته تقريباً. كأن هذا «العروبي المعتق» لا يرى بحدقته القومية أي وجود أو دور لإيران والميليشيات الشيعية التابعة في ما يحدث في المنطقة قبل وأثناء الربيع العربي، وبخاصة في العراق وسورية.
مثال آخر مختلف لأستاذ جامعي مصري محترم في العلوم السياسية وينتمي إلى التيار الناصري، يشترك مع بقية القوميين العرب في تغييب إيران ودورها عن كتاباته، لا يريد كما يبدو تحميلها أي مسؤولية في الحرب الأهلية في كل من العراق وسورية، ولا يريد تبرئتها تماماً، وموقفه مرتبك. يتفادى هذا الأكاديمي أيضاً التركيز على الدور السعودي، ربما من باب تحقيق التوازن في موقفه من الرياض (العاصمة العربية) وطهران (العاصمة غير العربية). كتب قبل سنوات مقالة في صحيفة «المصري اليوم» يعترض فيها على زيارة الرئيس السابق محمد مرسي للسعودية في صيف 2012، وذلك باعتبارها الزيارة الأولى له خارج مصر. قدم مبررات رفضه، وكان أغربها وأكثرها تناقضاً مع خطه السياسي قوله: «كما كنت أفضل ألا يزور الرئيس المصري السعودية قبل أن تكون مصر استعادت علاقتها الدبلوماسية الكاملة مع إيران». هكذا يرهن كاتب ناصري العلاقة بين دولتين عربيتين للعلاقة مع دولة غير عربية وتلعب دوراً مناهضاً للعروبة التي يؤمن بها.
يقال أحياناً إن تفسير مثل هذه المواقف الصارخة في تناقضاتها يكمن في أن أصحابها أسرى حال كراهية نفسية مترسبة لديهم تجاه السعودية على خلفية الصراع السعودي المصري إبان ما كان يعرف بالحرب العربية الباردة في ستينات القرن الماضي، وإذا كان هذا صحيحاً، وهو احتمال وارد جداً، فإنه يعبر في أحسن الأحوال عن سذاجة سياسية وعن هشاشة الرؤية القومية قبل أي شيء آخر. ومع أن هذا عامل مشترك، إلا أنه لا يعني أن القوميين العرب كتلة واحدة، فبعضهم حين يتفادى اتخاذ موقف نقدي من إيران، إنما يفعل ذلك تفادياً لأن يؤخذ هذا على أنه تأييد للسعودية، واعتراف بأنها الطرف العربي الذي يقود المواجهة مع إيران في المنطقة. كان بإمكان هؤلاء، بالمعيار القومي، إعلان رفضهم الدور الإيراني وتوظيفه الطائفية وتحالف الأقليات لإعادة تأسيس السلطة في سورية والعراق واليمن، بما يشكل تهديداً للدولة الوطنية العربية، ولفكرة القومية العربية. في الوقت ذاته، كان بإمكانهم عدم السماح بتجيير هذا الموقف لمصلحة السعودية إذا كانوا يرون ذلك، لكنهم لم ولن يفعلوا لأن فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه.
البعض الآخر يجمعون الانتهازية السياسية إلى النفاق القومي. لا يمكن اتهام هؤلاء بالسذاجة، لأنهم يتخذون القومية لبوساً لشيء آخر. حزب البعث السوري بقيادة الأسد، وأغلب مثقفي «الممانعة» في الشام خير معبر عن ذلك. بالنسبة إلى هؤلاء، الانتماء إلى حزب البعث ليس تماماً انتماء إلى أيديولوجيا القومية العربية كما يقولون بها، ولا للفكر الاشتراكي، هو غطاء للبحث عن مساواة ليست طبقية، بل مذهبية تكرس المذهبية بما يسمح بتحالف الأقليات أمام الأغلبية السنية في سورية، ثم على مستوى العالم العربي. أما في عراق ما بعد الاحتلال الأميركي، حيث لا أغلبية سنية، بل كما يقال أغلبية شيعية، فهناك طائفية معلنة بشكل سافر لا تأخذ بفكرة تحالف الأقليات بعد.
المدهش أن كل هذا حصل ويحصل للعالم العربي بدعم وتشجيع معلن من إيران، وبعد ضجيج قومي صم الآذان ولم يفرض نفسه على الجميع كإشكال مقلق. يا ترى كيف؟ ولماذا؟
في الأحد 02 إبريل-نيسان 2017 08:55:51 ص